"إرث ثقيل"… الأزهر يتصدى للفكر المتشدد "المعادي" لحضارة قدماء المصريين
                                    في الأيام القليلة الماضية، حرص ملايين المصريين على نشر صورهم بالزيّ المصري القديم على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
تلك الصور المعدّلة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، رأى فيها كثيرون تعبيراً عن فخرهم بهويتهم الوطنية، واعتزازهم بحضارة أجدادهم القدماء، وإعلاناً عن سعادتهم بافتتاح المتحف المصري الكبير الذي شهد احتفالية أسطورية وحضوراً دولياً وعربياً غير مسبوق.
هذه الحالة الشعورية التي لا تزال مستمرة حتى الآن، قوبلت بردّ فعل عنيف ومعاكس تماماً من قبل المتشدّدين دينياً، تجلّى في كتابة تعليقات سلبية وإطلاق أيقونة "الوجه الغاضب"، وبثّ فتاوى تُحرّم التشبّه بـ"الفراعنة" باعتبارهم "كفّاراً"، وتدعو إلى الاكتفاء بالاعتزاز بالانتماء الديني (الإسلامي) دون سواه.
تحرّكت المؤسسات الإسلامية الرسمية للتصدّي لتلك الموجة الجامحة التي تنشر مفاهيم مضلّلة، وتخلق صراعاً لا وجود له بين الدين والجمال والحضارة كمنجزٍ إنساني خالص.
وكان على رأس تلك المؤسسات الأزهر الشريف، إضافةً إلى وزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية، التي نشرت محتوى رقمياً لتصحيح المفاهيم المغلوطة.
وعي جديد
شكّل موقف شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ما يشبه "المنارة" في بحرٍ معتمٍ تلتبس فيه المسارات بالنسبة لكثيرين ممّن اختلطت الأفكار في أذهانهم، بسبب كثافة المحتوى الديني الذي تبثّه التيارات السلفية المتشدّدة على مدار عقود ممتدّة.
وقال الشيخ الطيب: "يجب أن نستلهم مشاعر الفخر من هذا الإنسان المصري القديم الذي أدهش العالم بحضارة استثنائية لا تزال أسرارها في مختلف الفنون عصيّةً على الفهم والإدراك، رغم ما توصّل إليه إنسان اليوم من تقدّمٍ تقني وتكنولوجي مذهل".

ويقول أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ماربورغ الألمانية الدكتور عاصم حفني، لـ"النهار"، إن موقف المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر، "إيجابي ومشكور، وسيكون له تأثير على المدى الطويل في صناعة وعي ديني جديد".
ويشير حفني إلى أنّ الطيب ركّز على مفهوم الحضارة ومصطلحاته الدقيقة، مؤكّداً أنّ "الحضارة لا تقتصر على دينٍ معيّن، بل هي تراكم تراثي وتناقُح بين حضارةٍ وأخرى، وفي اختيار المصطلح دلالة على التكامل والتعاون بين الحضارات والأديان".
ويضيف: "ركّز الشيخ الطيب كذلك على قيمة الجمال، وهو هنا يعبّر بشكلٍ مباشر عن أنّ الإسلام منفتح على التراث الإنساني ككلّ، ويقدّر قيمة الجمال، ووراء هذا المعنى تقف مفاهيم كثيرة ترتبط بما ينجزه الإنسان، بغضّ النظر عن دينه أو عِرقه، فالجمال قيمة في ذاته يقدّرها الإسلام".
ويتطرّق حفني إلى نقطة يراها "بالغة الأهمية"، وهي "التركيز على البعد القيمي في الحضارة المصرية القديمة، وإشارة شيخ الأزهر إلى أنّ ما جاء بهذا البعد يحضّ عليه كلّ دين". ويقول: "إذا أخذنا مثالاً من قوانين ماعت أو ما ورد في كتاب الموتى، فلن نجده يختلف في مضمونه عمّا جاء في الوصايا العشر بالتوراة، أو في ما يحرّمه الإسلام".
"صوت الأزهر"
أعدّت صحيفة "صوت الأزهر" ملحقاً خاصاً تصدّره عنوان بارز هو "الضمير المصري الطاهر عبر العصور"، بخلفيةٍ تحمل صورةً كبيرة لتمثال الملك أخناتون، أول الموحدين في التاريخ القديم، وبجواره في عمودٍ جانبيّ "قانون ماعت".
وعن هذا، يقول رئيس تحرير الصحيفة الصادرة عن مشيخة الأزهر أحمد الصاوي، لـ"النهار"، إن "الهدف الرئيسي من الغلاف هو الردّ على الجدل الدائر ومحاولة تأثيم الحضارة الفرعونية شرعاً، وتصويرها على أنّها وثنية، وذلك بالتأكيد على الجوانب الأخلاقية العظيمة التي رسّختها حضارة قدماء المصريين، وانشغال الإنسان بفكرة العدل والفضائل والقيم المؤدية إليه، وإيمانه بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت".
وبشأن موقف الشيخ الطيب، يوضح الصاوي: "حسم الأزهر الشريف موقفه الشرعي من كافة القضايا المتعلقة بالسياحة والآثار، وكان أبرز تجلٍّ لذلك بيانه الصادر عن مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي عام 2020".
ويضيف: "في هذا البيان الذي تلاه فضيلة الإمام الأكبر، حُسم الجدل بشأن الآثار، وأُكِّد أنها موروثٌ ثقافيّ يعرّف بتاريخ الأمم والحضارات، وليست أصناماً أو أوثاناً كما يزعم البعض".
"غبار السلفية"
يرى الباحث في شؤون الجماعات الأصولية والأمن الإقليمي عمرو فاروق، أنّ احترام المؤسسات الدينية للحضارة المصرية القديمة يأتي من إدراكها لمفهوم الدولة والوطنية، ويقول لـ"النهار" إن المؤسسات الدينية "تسعى إلى نفض غبار السلفية الذي كبّل أنفاسها لعقود طويلة".

ويضيف فاروق: "تدرك المؤسسات الدينية أن الدولة لا تنفصل عن تاريخها المعاصر، ولا عن حضارتها القديمة، لا سيّما أن المصريين القدماء كانوا أهل عقيدة وتوحيد، وأن هناك فارقاً كبيراً بين الحفاظ على هذه الآثار التاريخية بوصفها جزءاً من الحضارة المصرية، وبين قضية الوثنية والعبودية لغير الله كما يروّج أنصار التيارات السلفية المعاصرة".
    
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                        نبض