
في بلد تبلغ فيه نسبة المسلمين أكثر من 99 في المئة، لم يعد مشهد أشجار الميلاد المنتشرة في المحال والفضاءات التجارية غريباً في السنوات الأخيرة. فقد تسللت الاحتفالات بعيدي الميلاد ورأس السنة إلى أجندة أعياد التونسيين وصارت واحدةً منها.
في تونس تبدأ زينة أعياد الميلاد وأشجاره بالظهور في الأماكن العامة مع بداية كانون الأول (ديسمبر)، وتختار المحال التجارية أن ترحب بزوارها في مثل هذه الفترة بالألوان والأضواء المُختارة بعناية.
احتفال تجاري
بات الاحتفال بـ"الكريسماس" ورأس السنة الميلادية مناسبة تجارية تحرك الأسواق التونسية التي تعيش حالة ركود في مثل هذه الفترة من السنة. وفي العديد من الأسواق، حتى الشعبية منها، بات ملحوظاً حضور لوازم الاحتفال بـNoel كما يسميه التونسيون من أشجار صنوبر، وزينة، وأضواء، وملابس "بابا نويل"، من أجل سهرة عائلية مثاليّة.
واللافت أن أغلب المتجولين في هذه الأسواق من التونسيين المسلمين الذين جاؤوا بحثاً عن لوازم سهرة عائلية تعتبر واحدةً من السهرات القليلة التي تحرص فيها العائلات التونسية على الاجتماع حول طاولة واحدة.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بات عدد من التونسيين ينشرون صوراً لشجرة الميلاد، وقد زُينت داخل بيوتهم، ويلتقطون صوراً عائلية بملابس العيد تخليداً للمناسبة.
وتقول الأستاذة الجامعية في علم اجتماع الأديان والأنثروبولوجيا الـدينية صابرين الجلاصي لـ"النهار" إن "الاحتفال بعيد الميلاد بات من عادات التونسيين في السنوات الأخيرة. فالتونسي، وإن كان مسلماً، يعتبر هذه المناسبة حدثاً يجب الاحتفال به، لذلك نرى الطوابير الطويلة أمام محال بيع المرطبات والدجاج في الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول".
وتضيف أن "حضور شجرة الميلاد في البيوت التونسية المسلمة والمرطبات الخاصة بهذه المناسبة لم يعد فعلاً مستهجناً، إذ لا علاقة لهذه الطقوس الاحتفالية بالمعتقد الديني".
وتلفت إلى أن "الاحتفال بالميلاد الذي هو طقس ديني مقدس عند المسيحيين، تم "تسليعه" من رأس المال الذي حوله إلى حدث استهلاكي بامتياز في مجتمع مسلم".
وتتمثل احتفالات التونسيين بالعيد في تحضير مأدبة عشاء ليلة رأس السنة الميلادية يعدّون فيها أشهى الأطباق، وغالباً ما يكون "الدجاج الروتي" (المعدّ في الفرن) طبقها الرئيسي، علاوةً على شراء المرطبات.
أجواء مميزة
تقول سيرين بن عمر، وهي تونسية تصنع أشجار الميلاد من مواد صديقة للبيئة وتبيعها للزبائن متبرعة بثمنها لجمعيات رعاية الأطفال اليتامى، إن "هناك اقبالاً كبيرا من التونسيين على شراء شجرة الميلاد في السنوات الأخيرة". وتضيف في تصريح لـ"النهار": "التونسي لا يربط هذا الحدث بالدين، فهو بالنسبة إليه مناسبة للاحتفال بعيداً من الدلالات الدينية".
وتؤكد، هي التي عاشت في فرنسا سنوات طويلة، أن "الكثير من التونسيين يشاركون أصدقاءهم المسيحيين، وأغلبهم من الأجانب في الاحتفال بهذه المناسبة عبر حضور سهرة عيد الميلاد وتحضير الهدايا وارتداء الملابس الخاصة بالحدث".
ليس في تونس عدد كبير من المسيحيين، وأغلبهم من الأجانب الذين يقيمون في البلد موقتا أو دائما، وساهم ازدياد المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء في ارتفاع عددهم، فقد صار حضورهم طاغياً في كل قداس يقام في الكنائس القليلة الموجودة في البلد.
وفي ليلة عيد الميلاد، تنظم كاتدرائيات تونس قداسا احتفاليا يحضره إلى جانب المسيحيين من الأجانب، تونسيون يدفعهم الفضول إلى المشاركة.
وتروي إيمان العربي التي حضرت احتفال عيد الميلاد في كاترائية القديس فانسان دو بول في شارع بورقيبة السنة الماضية، إنها رغم كونها مسلمة فقد رغبت في استكشاف أجواء تلك الليلة المميزة بالنسبة إلى المسيحيين.
وتضيف لـ"النهار" أنها شعرت بقداسة المكان وأبهرتها الأجواء التي امتزجت فيها الموسيقى وأصوات المرتلين بالأضواء، وشعرت بالقدسية تخيم عليها.
في تونس سبع كنائس، إضافة إلى معالم دينية وتاريخية تحولت، رغم تحذيرات المختصين بالتراث، إلى بنايات مهجورة.
لا إحصاءات رسمية عن عدد المسيحيين في البلاد، لكن بعض الأرقام تقدرهم بنحو 20 ألف، أغلبهم من الكاثوليك، يمثلون 0.2 في المئة من سكان البلد.
فتاوى التحريم
الاحتفال بالميلاد ورأس السنة لا يمرّ كل سنة، في بلد أغلبه من المسلمين، من دون ظهور فتاوى تحرّم ذلك وتجرّمه، وتصل أحيانا الى حد التكفير.
ويظهر ذلك خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي حيث يكون السجال حاداً بين من يستنكر هذه العادات الغريبة والدخيلة على المجتمع التونسي معتبراً أنها مخالفة للدين الإسلامي، ويرى في ذلك تهديداً للمجتمع التونسي، ومن يدافع عمن يحتفلون بهذه المناسبة معتبراً أن من قيم الإسلام التسامح وأن الاحتفال بعيد الميلاد لا يضرّ أحداً.
والحال أن احتفال التونسيين برأس السنة الجديدة ليس تقليداً جديداً، فمن عادات التونسيين القديمة إحياء هذه المناسبة.
ويقول الباحث في التراث عبد الستار عمامو لـ"النهار" إن التونسي يحتفل ب"رأس العام السوري" كما تُسمى هذه المناسبة لتمييزها عن "رأس العام العربي" (رأس السنة الهجرية).
ويوضح أن "من العادات التونسية القديمة في مثل هذه المناسبة إعداد طبق الملوخية الذي هو مرادف للخير، باعتبار أن لونه الأخضر بركة للتونسيين "حتى يكون العام أخضر"، علاوة على أن العائلات كانت سابقاً تحرص على أن يحتوي جهاز العروس على نخلة فضية تُشعل شمعة تحتها ليلة ميلاد المسيح استعادة لقصته كما وردت في الإسلام.
ويشير إلى أن تونس عرفت العديد من الحضارات والديانات "وكل واحدة منها تركت أثرها فيها".