المفقودون في سوريا: نهاية الطريق مقابر جماعية!
يُجسّد البحث عن آلاف السوريين المفقودين خلال الحرب الأهلية جرحاً مفتوحاً لم يلتئم بعد، إذ تكشف المقابر الجماعية المنتشرة في البلاد حجم المأساة. ومع تغيّر المشهد السياسي، تقف الحكومة الجديدة أمام تحدٍ شاق يتمثل في استخراج الرفات وتحديد الهوية، أملاً في منح العائلات بعض السكينة.
خلال الحرب الأهلية التي استمرت 13 عاماً، اختفى أكثر من 100 ألف شخص. ولإنهاء معاناة بعض عائلاتهم، تواجه الحكومة الجديدة مهمةً شاقةً تتمثل في استخراج رفاتهم من عشرات المقابر. فعائلات المفقودين لم تعد تأتي بالعشرات يوميًا إلى مقبرة "نجها"، بحثاً عن رفات أحبائهم، بعد أن كانوا منذ عام، وفي الأيام التي أعقبت الإطاحة بالديكتاتور بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر، يأتون أحيانًا حاملين المجارف، عازمين على نبش المقبرة الجماعية هناك. ولكنهم، في النهاية، استسلموا عندما أدركوا أنهم لن يجدوا سوى عظام في أكياس الجثث، من دون أيّ وسيلة لتحديد هوية أصحابها، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
اعتقلت السلطات السابقة عشرات الآلاف ممن اعتُبروا معارضين للنظام خلال الحرب، واختفوا، وأُعدم الكثير منهم أو قُتلوا تحت التعذيب، وفقًا لمنظمات حقوق الإنسان. ويُعتقد أن المئات، وربما الآلاف، دُفنوا في مقبرة نجها، الواقعة على مشارف العاصمة دمشق.
وقال مسؤولون إنه تم تحديد ما لا يقلّ عن 60 مقبرة جماعية في جميع أنحاء سوريا حتى الآن، ويتم العثور على مقابر جديدة بانتظام. لكن معرفة هوية المدفونين فيها جزء من مشكلة أوسع وأكثر تعقيداً لقادة البلاد الجدد، الذين يحاولون تحقيق قدر من المساءلة والعدالة لجرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد.
ويقول الأكاديمي السوري والأستاذ في جامعة جورج واشنطن، رضوان زيادة، لـ"النهار" إن هذا الملف "هو من أولويات الحكومة السورية اليوم، خاصة البحث عن مصير المفقودين"، مشيراً إلى أن "الحكومة السورية شكلت الهيئة الوطنية للمفقودين"، ومؤكداً على أن "عدد المفقودين أكبر من قدرات الحكومة على كشف المصير".
ويضيف زيادة لـ"النهار": "لذلك يجب تعاون المجتمع الدولي في هذا الإطار"، لافتاً إلى أن "في البوسنة والهرسك، أسس المجتمع الدولي المؤسسة الدولية ICMP (International Commission of Missing Persons) من أجل مساعدة الحكومة البوسنية على الكشف عن مصير أكثر من 73 الف مفقود. في سوريا، طبعاً العدد أكبر بكثير، ولذلك يجب على المجتمع الدولي أن يقوم بالمساعدة في هذا الملف المهم جداً".
في هذا الصدد، يدعو أهالي المفقودين الحكومة والمنظمات الدولية إلى استخراج الجثث وتحديد هويتها، وهو ما يحذر المسؤولون من أنه سيكون عملية طويلة ومضنية، إذ تفتقر الحكومة الجديدة إلى الخبرة الفنية والقدرات الجنائية اللازمة للقيام بذلك، وستحتاج إلى مساعدة من المنظمات الدولية.
وقد صرح وزير الطوارئ والكوارث السوري بأن ما يقرب من 140 ألف سوري ما زالوا في عداد المفقودين ومجهولي المصير.
برزت حقيقة عدد الأشخاص الذين ربما يكون نظام الأسد قد قتلهم بوضوح أكبر عندما اجتاح الثوار سجون سوريا قبل عام. فرّغ الثوار زنزانات مفتوحة، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان. ولكن عائلات المفقودين توقعت العثور على المزيد.
في بعض السجون، أمضت العائلات وعمال الإنقاذ أسابيع في الحفر في الأرضيات الخرسانية بحثاً عمّا ظنوا أنه زنزانات تحت الأرض تضمّ أعدادًا كبيرة من السجناء الإضافيين. لكنهم لم يعثروا على شيء. وحينها أدركوا أنه من المرجّح العثور على المفقودين في المقابر الجماعية.
يقول الناشط الحقوقي ومؤسس المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن لـ"النهار": "أولاً، في ما يتعلق بملف المقابر الجماعية والمفقودين، لا يمكن تجاهل أن المفقودين كانوا جزءاً أساسياً من مأساة سوريا، وأن المجتمع الدولي أبدى تعاطفاً واسعاً مع هذا الملف بعد سقوط نظام الطاغية بشار الأسد. وقد ركزت وسائل الإعلام الدولية خلال الأسبوعين الأوّلين من سقوط النظام على ما قيل عن سجن صيدنايا ووجود سبعة طوابق تحت الأرض، رغم أن الجميع كان يعرف أن السجن يضمّ طابقًا تحت الأرض، وطابقين فوقه، وفق هيكله المعروف".
ويضيف: "خلال تلك الأيام، تحوّل الاهتمام الإعلامي إلى قضية المفقودين وجثامينهم، بينما كانت إسرائيل تقصف الأراضي السورية، ما جعل الموضوع يُستغلّ سياسيًا أكثر من كونه ملفاً إنسانياً. واليوم، بعد مرور نحو عام على سقوط النظام، يبقى السؤال: أين جثامين عشرات آلاف المعتقلين الذين اختفوا في معتقلات النظام؟ هل يُعقل أن السلطات الحالية، رغم اعتقالها مسؤولين من أجهزة المخابرات السابقة، لم تتمكن من معرفة أماكن الجثامين والمقابر الجماعية؟ ولماذا سُمِح في الأيام الأولى لسقوط النظام بالعبث بالملفات داخل الفروع الأمنية؟".
ويؤكد عبد الرحمن أن على "الحكومة السورية اليوم أن تتحمل مسؤولياتها كاملة. نعم، نحن نسعى للحياة، لكن هذه الحياة لم تُنتزع بجهود بسيطة، بل بتضحيات المفقودين الذين قضوا في معتقلات النظام. ولا ننسى أن "قانون قيصر" كان عاملًا أساسيًا في شلّ النظام عبر العقوبات الأميركية، وساهم بشكل كبير في انهياره وسقوطه".
وبالفعل، كان هناك مبادرات من سوريين مقيمين خارج البلد بخصوص هذا الموضوع ولكن الحكومة السورية الحالية لم ترغب في العمل معها. ويقول أكاديمي سوري مقيم خارج البلاد، طلب عدم ذكر اسمه، مؤسس مبادرة للبحث عن المفقودين من خلال البحث الجيني لـ"النهار" إن "المبادرة التي أطلقناها توقفت لعدم رغبة الحكومة السورية بمتابعة العمل معنا على الأقل. حالياً معلوماتنا تقول إن هناك عمل قائم من قبل الصليب الأحمر على بناء مختبر جيني أو بعض التكنولوجيا الجينية لقسم الطب الجينائي في وزارة الصحة السورية، وهذا حالياً القائم".
ويضيف أن "هناك بعض المبادرات البسيطة جداً من هيئة الطاقة الذرية في سوريا أيضاً، ولكن ما من معلومات عن تطور هذه المبادرة في هيئة الطاقة الذرية، أو مدى قوتها وقدرتها في هذا الموضوع".
وعن سبب عدم رغبة الحكومة السورية بعدم المضي قدما في المسألة، يقول لـ"النهار": "في الحقيقة، لم نتلقَّ أي توضيح لسبب عدم الرغبة في المضي قُدماً في هذه المبادرة. فقد كان رأيهم أن هناك عروضاً أو مبادرات أو فرصاً أخرى أكثر ملاءمة للعمل على مشروع بناء المختبرات الجينية، وبناءً على ذلك تم إيقاف العمل فوراً على هذا الموضوع".
ويرى أن "الحكومة، مع وجود الهيئة الوطنية للمفقودين والهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، تُظهر جدية في مسألة كشف مصير المفقودين. اضافة الى هيئة الطاقة الذرية، تعمل الحكومة على تأسيس مخبر جيني، وقد طلبت دعما من الصليب الأحمر، إضافة إلى دور وزارة الصحة والطب الشرعي".
ويشدد على أن "هناك خطوات عملية تُتَّخذ؛ وربما تستغرق وقتًا أطول مما كنا نتوقع، لكن الأمور تسير بخطوات تبدو حقيقية وإن كانت بطيئة. وعلى الرغم من ذلك، فإنني ما زلت أرى أن الجدية موجودة في هذا التوجّه حتى الآن".
تشكّل قضية المفقودين تحدياً إنسانياً واختباراً حقيقياً لسوريا الجديدة، إذ يظل مصيرهم مفتاحاً لفهم حجم المأساة وتحقيق العدالة. وبين المقابر الجماعية وغياب الخبرة الفنية، يظل التعاون الدولي ضرورة لإعطاء العائلات الحقيقة والعدالة التي طال انتظارها.
نبض