عودة المنشقين إلى مؤسسات الدولة لم تعد فكرة تُدار في الأوساط السياسية فحسب، بل صارت مساراً إدارياً يُنفّذ على دفعات، يحمل أثراً رمزياً في طيّ جزء من الانقسام، وواقعاً عملياً في سدّ ثغرات الخبرة الناتجة من سنوات الانقطاع. بهذا المعنى، تحوّلت عودة الكوادر إلى ملف مؤسسي بامتياز، مع صعوبة في حسم نتائجه في المرحلة الراهنة.

وفيما تساهم عودة الديبلوماسيين في استعادة قدرات السلك الديبلوماسي وخدمة الجاليات، تتجه الأنظار إلى وزارة الدفاع، وخصوصاً أن ملف المقاتلين الأجانب وتباينات الخلفيات يجعل أي تحرك هناك ذا دلالات أوسع.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن تعلن وزارة الدفاع ضم مئات الضباط المنشقين إلى الجيش الجديد، بالتزامن مع اقتراب موعد مغادرة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، في خطوة هي الأولى من نوعها. وتعزز دلالة ذلك أن الزيارة ستتضمن توقيع انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وهو ما يستلزم إعادة هيكلة عدد من القوات السورية لتتلاءم مع معايير العمل مع القوات الأميركية وغيرها من قوات التحالف.

وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الدفاع أمس إعادة تفعيل نحو ألفي ضابط بعد مقابلات مع قرابة ثلاثة آلاف ضابط، وأتبعت ذلك بإعلان تعيين ستة ضباط عائدين في مناصب استشارية وتعليمية داخل هيئات التدريب والكليات. وقبل ذلك، عُيّن سليم إدريس، وزير الدفاع السابق في الحكومة الموقتة، مستشاراً للأكاديمية الوطنية للهندسة العسكرية، وتسلّم العميد حسن حمادة، الذي شغل المنصب نفسه خلفاً لإدريس، منصب نائب رئيس أركان القوى الجوية.

العميد حسن حمادة. (وسائل تواصل اجتماعي)

وقد سبق ذلك قرار طال انتظاره من وزارة الخارجية بإعادة نحو عشرين ديبلوماسياً إلى الخدمة بعد أكثر من عقد على انشقاقهم، مع توقع توزيعهم على بعثات ذات أولوية في مجال العلاقات الخارجية والخدمات القنصلية. وبدأت الوزارة منذ الربيع الماضي بجمع بيانات المنشقين وتحديثها، وأغلقت باب التسجيل في نهاية أيار/ مايو. وغاب اسم السفير بسام العمادي عن لائحة العائدين لبلوغه سن التقاعد. ومما لا شك فيه أن عودة هؤلاء الديبلوماسيين تضخ خبرات مباشرة في شرايين وزارة الخارجية التي عانت من قصور في بعض جوانب الأداء وصوغ المواقف والبرقيات. كما يعزز وجودهم قنوات التواصل مع عواصم غربية وعربية، بفضل خبراتهم وشبكات علاقاتهم، ما قد ينعكس إيجابياً على جهود إعادة ربط العلاقات الديبلوماسية وإعادة هندسة موقع سوريا في المعادلات الإقليمية والدولية.

ولم تقتصر عودة المنشقين على وزارتَي الدفاع والخارجية؛ فقد صدر مرسوم بإعادة عدد من القضاة المنشقين إلى العمل، وتعمل وزارة الداخلية حالياً على دراسة إعادة مئات من ضباط الشرطة المنشقين إلى مهماتهم. ففي حزيران/ يونيو الماضي، أصدر الشرع المرسوم الرقم 70 لعام 2025 القاضي بإعادة 63 قاضياً من المنشقين في عهد النظام السابق إلى الخدمة القضائية، بعد سنوات من العزل بمراسيم سابقة. وقد وضعت وزارة العدل هذه الخطوة في سياق سياسة إصلاح قضائي شاملة تهدف إلى تعزيز استقلالية السلطة القضائية وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة. وتعرضت التعيينات القضائية السابقة لانتقادات عدة، لجهة شمول بعض المناصب أشخاصاً تخرجوا من كليات الشريعة بدلاً من كليات الحقوق، ما أثار نقاشات بشأن معايير التأهيل والاختيار.

وفي الداخلية، أنهت لجنة مختصة مقابلات مع أكثر من 260 ضابط شرطة من أصل شريحة مستهدفة تُقدر بنحو 600 ضابط. وتستعد الوزارة لفتح تسجيل إلكتروني للموجودين في الخارج، يليه رفع مقترحات توزيع تراعي الاختصاص والخبرة. ولا قرارات تعيين نهائية حتى الآن، لكن اكتمال الجولة الأولى من المقابلات يضع بين يدي الوزارة قاعدة بيانات تؤهلها لبدء الدفعة الأولى عند استكمال الإجراءات، بما يوازن بين الحاجة إلى الكوادر ومتطلبات الانسجام داخل وحدات الشرطة.

بهذا تتضح ملامح مسار إداري آخذ في الترسخ: عودة تدريجية تعيد وصل ما انقطع داخل مؤسسات الدولة، وتسد فراغات خلّفتها الحرب والانقسامات، من غير أن تعني بالضرورة طي صفحتها بالكامل. فالمسار لا يزال في بداياته، لكنه يعبّر عن محاولة لاستعادة الإيقاع المؤسسي وتثبيت حد أدنى من الاستقرار في بنية الدولة الجديدة.