"ثمّة مقاومة أبدية مرتبطة بلبنان"... دلفين مينوي لـ"النهار": النظام الإيراني في مرحلة الاحتضار
تأخذنا الصحافية والكاتبة الفرنسية دلفين مينوي في رحلة عبر تجربتها في الشرق الأوسط الممتدة لأكثر من عقدين، خلال مقابلة مع "النهار"، حيث تتأمّل معنى الحرية في سياقات استبدادية، وتتحدث عن شغفها بسرد القصص الإنسانية في سياق سياسي صعب، وعن جيل إيراني جديد يكسر الصمت، ولبنان الذي ينهض دائماً من رماده.
لقد أمضيتِ سنوات في تغطية الأحداث في إيران ولبنان واليوم في تركيا. كيف أثرت هذه التجربة الميدانية في سياقات غالباً ما تكون استبدادية على نظرتك إلى الحرية؟
وعندما انتقلت إلى إيران عام 1997، كان هذا هو أول ما لفت انتباهي. كنت في ذلك الوقت في الثانية والعشرين، والتقيت بشباب في مثل عمري يقاتلون من أجل الحرية، خاصة النساء. لا يُسمح لهن بممارسة بعض المهن، ولا يحق لهن الرقص أو الغناء في الأماكن العامة. أول ما لفت انتباهي في أول زيارة لي للمنطقة أن الحرية التي تمتعت بها طوال هذه السنوات كانت نعمة، كانت فرصة، وأنها في الشرق الأوسط جزء لا يتجزأ من شكل من أشكال المقاومة اليومية.
في كتاب "أبجدية الصمت"، تتحدثين عن تركيا من خلال نظرة امرأة سُجن زوجها لتوقيعه على بيان. لماذا اخترتِ الرواية لتخبري هذه الحقيقة السياسية، وما الذي كنتِ تأملين أن تنقليه ولا يستطيع الصحافي أن يقوله دائماً؟
في الواقع، لقد تأثرت كثيراً بعد الانقلاب الفاشل ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016 بهذا الانحراف الحقيقي، فقد ساد تحوّل استبدادي لم يقتصر تأثيره على الأوساط السياسية فحسب، بل شمل مطاردة القضاة والطلاب والصحافيين والأكاديميين.
قمت بتغطية هذه الأحداث في "لو فيغارو". وقمت بجولة في البلاد للقاء الأساتذة الذين هُمّشوا. وأدركت أن تقريراً صحافياً لا يكفي لعرض هذه المعركة والمقاومة السرية من المعلمين. لذا، قلت لنفسي، لماذا لا أكتب عنهم؟ وحاولت تجسيد القصص التي جمعتها من شهادات مختلفة والاستلهام منها وإحياءها من خلال زوج من المعلمين تخيّلتهما، ما سمح لي بسرد القصة بشكل أقرب وسرد تأثير هذا الانحراف السياسي على الحياة الخاصة... كيف يؤدي انهيار نظام سياسي في النهاية إلى انهيار للحالة النفسية الشخصية ولكن أيضاً في الأسرة.
تجمع كتاباتك بين الصحافة والرواية الشخصية، وغالباً ما تعكس تجارب أولئك الذين يعيشون تحت أنظمة قمعية. كيف تتمكنين من تحقيق التوازن بين الموضوعية وضرورة نقل حقيقة إنسانية أعمق؟
يستحوذ على تفكيري دائماً سؤال كيف يمكنني، أنا التي حظيت بفرصة العيش في الشرق الأوسط، أن أروي قصة هذه المنطقة التي تبدو وحشية إذا تحدثنا عن الصور النمطية. كيف أحاول أن آخذ القارئ بيده لأروي له قصصاً صغيرة ولكنها تسمح بتجسيد القصة الكبيرة، لفهم الأحداث بشكل أفضل في تفاصيلها الدقيقة وعدم الوقوع في الصورة النمطية. وما يثير اهتمامي دائماً هو نفسية الأشخاص الذين نلتقيهم، فهناك دائماً ثغرات داخلية. وهذه الثغرات هي التي تجذبني.
ولذلك، عندما أعمل على رواية، أسمح لنفسي، خلافاً لمقالاتي حيث يجب أن أبقى محايدة، بأن أكون أكثر من موضوعية، لأنني لا أعطي وجهة نظري، لكنني أسمح لنفسي بأن أقدّم العاطفة والمشاعر. أؤدي دور الوسيط وأنقل عواطف الأشخاص لأقدمها للقراء.
لقد تحدثتِ عن الشباب الإيراني والنضال من أجل الحرية، وعن النظام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، والحرب الإسرائيلية الإيرانية. ما الذي يميّز الجيل الإيراني الحالي عن الأجيال السابقة؟
من المثير للاهتمام أن نرى مدى روعة الجيل الإيراني الجديد الذي خاض نضالاً ويواصل خوضه مع حركة "امرأة، حياة، حرية" بعد وفاة مهسا أميني، وكيف أن هذا الجيل الذي استيقظ فجأة، وخرج إلى الشوارع هو في النهاية ثمرة جميع الأجيال السابقة ووريث جميع النضالات السابقة. هو وريث انتفاضات الطلاب عام 1999 والموجة الخضراء في عام 2009 والحركات الاحتجاجية الاقتصادية في 2017-2019.
ولكنه مختلف تماماً عن السابقين، أي جيلي الذي وُلد أثناء الثورة الإسلامية أو بعدها بقليل. لقد نشأ حقاً في قيود أيديولوجية دينية شديدة. إنه الجيل المحروق لأنه قضى وقته في التنازلات والحسابات وتبنّى شكلاً من أشكال الانفصام، اعتاد الخضوع للإملاءات السياسية في الأماكن العامة لكنه عاش حريته في الخفاء. الجيل الجديد مثير للاهتمام، لأنه أكثر تطلباً وتمرّداً فهو يقول "سئمنا العيش في الخفاء... لا نريد ثقافة الكذب والنفاق مثل آبائنا".
وجزء كبير من الشابات يتمردن، على سبيل المثال، في مدينة مشهد المحافظة، ترسل لي شابات إيرانيات مقاطع فيديو ويقلن: انظري، نحن في شارع، وهناك الكثير من المقاهي. جميعهن جالسات على تراس المقهى، يرتدين ملابس أنيقة جداً، بدون حجاب... أعتقد أن جدار الخوف قد تصدّع. فعدد كبير من النساء لا يستسلمن ولا يخضعن لشرطة الآداب، يتمتعن بنوع من ثقافة التمسك بالموقف حتى النهاية. إنها النار وإنها حاجة الحياة الملحة.
هل النظام الإيراني حقاً في مرحلة الاحتضار؟ وإلى أيّ مدى أثرت الحرب على القدرات النووية لإيران؟
أعتقد أن النظام في مرحلة الاحتضار منذ فترة. والدليل على ذلك هو أنه في حالة ذعر وارتياب. وهو يستخدم السلاح الوحيد الباقي له وهو العنف والقمع. ومن هنا جاءت الزيادة في أحكام الإعدام أخيراً. لكننا نشهد اليوم فجوة واضحة للغاية بين أقلية في السلطة تكافح من أجل البقاء من جهة، وكتلة كبيرة من الناس لم تعد تصدّق أكاذيب الدولة من جهة أخرى.
قبل 20 عاماً، كان من الممكن تصديق أكاذيب السلطة. لكن الجيل الجديد، وهو أيضاً الجيل المتصل بالإنترنت، لم يعد ينخدع. فهو يقول: نحن سئمنا من أن يحكمنا مسنّون معادون للحضارة يبلغون 80 عاماً وهم بعيدون كل البعد عن رغباتنا وتوقعاتنا ومطالبنا.
ومن الواضح أن الضربات الإسرائيلية قد أضعفت النظام الإيراني لأنها أثبتت، من ناحية، أنه ليس منيعاً، ومن ناحية أخرى، كانت هناك درجة لا يمكن تصوّرها من الاختراق من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي تمكنت من استهداف قيادات، وكبار ضباط الحرس الثوري، والمهندسين النوويين، ومصافي النفط، والمواقع النووية، و مضادات للطائرات في أماكن محددة. لذلك، فإن النظام يدرك اليوم أنه مخترق وضعيف.
وأرى أن أن عملية "البايجر" هي نقطة التحول. شعرنا بأن إسرائيل كانت في طريقها للفوز في الحرب العسكرية والحرب النفسية أيضاً.
كل هذا يظهر أن هناك نظاماً يتقدم ويجد صعوبة، على ما أعتقد، في الإيمان بنفسه. لأن ما يثير الاهتمام اليوم، عندما أتابع عن كثب هيكل النظام السياسي الإيراني، هو أننا نشعر بوجود نوع من التنافس السياسي الداخلي والانشقاق.
علاوة على ذلك، في تظاهرات حركة " نساء، حياة، حرية"، كان هناك شعار يقول "لا لغزة، لا للبنان، روحي فقط لإيران". وبالتالي، يقول الناس لماذا تموّلون "حماس" و"حزب الله" فيما نحن نواجه أزمة كهرباء وعقوبات اقتصادية ونقصاً في المياه أصبح كارثياً اليوم، وأنكم لم تكونوا قادرين حتى على الحفاظ على البيئة وتوفير البنية التحتية المثالية لبلدنا فيما هناك عائدات نفطية حقيقية.
ما الذي يميّز لبنان عن البلدان المجاورة؟
أعتقد أن لبنان هو في النهاية عينة لجميع النزاعات الإقليمية. إن مأساة لبنان، إلى حد ما، هي أنه كان دائماً ساحة للنزاعات بين دول المنطقة. وهذا ما يجعله مأسوياً ومثيراً للاهتمام في الوقت نفسه.
هناك ثروة هائلة في هذا البلد، مع تعددية دينية وغنى ثقافي وجغرافيا رائعة على مساحة صغيرة، وهو مفتوح على العالم.
وأجد نوعاً من مقاومة أبدية مرتبطة بلبنان كالصور النمطية التي تتحدث عن طائر الفينيق الذي يولد دائماً من رماده وثقافة المرونة.
نبض