"منطقة أمنية" جنوب سوريا... استراتيجية إسرائيلية لمواجهة النفوذ التركي؟

بعد فترة تهدئة استمرت نحو أسبوعين تقريباً، عاودت تل أبيب استهداف الأراضي السورية جوّاً بعد منتصف ليل الأربعاء، وتركّزت الضربات على جنوب البلاد بالتزامن مع توغّل بري محدود في منتصف الخط الممتد بين محافظتي القنيطرة ودرعا الحدوديتين.
استراتيجية إسرائيلية شبيهة بالتركية
الاستهداف الإسرائيلي للأراضي السورية ليس بجديد، وشكّل جزءاً من تكتيك تل أبيب لتحجيم النفوذ الإيراني في زمن بشار الأسد، لكنه تصاعد في الأسابيع الأولى لوصول "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة في دمشق، وكان الهدف المعلن في حينه، منع الجهاديين الذين يشكّلون نواة الجيش السوري الجديد من الوصول إلى أسلحة الجيش السوري.
لكن ما يميّز الضربات الأخيرة الخطاب الجديد المرافق لها، والذي أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس كجزء من الاستراتيجية الجديدة لتل أبيب لخلق منطقة منزوعة السلاح تمتد من جنوب دمشق وحتى الحدود السورية-الإسرائيلية.
هذه الضربات جاءت بعد يومين من تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قوّات الجيش السوري الجديد التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة الموقتة من الانتشار في المثلث الجنوبي المكوّن من المحافظات الحدودية درعا والسويداء والقنيطرة، والتي وصفها كاتس بـ"المنطقة الأمنية".
وكشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية عن استراتيجية دفاعية جديدة بثلاثة مستويات تقوم على الجمع بين التحصينات داخل حدودها، وفرض وجود عسكري في مناطق عازلة داخل "الأراضي المعادية" في كل من غزة ولبنان وسوريا، وإخلاء مناطق التهديد من الأسلحة الثقيلة والصواريخ والطائرات المسيَّرة.
وتنتهج إسرائيل استراتيجية ميدانية تشبه إلى حد كبير ما قامت به تركيا خلال فترة حكم الأسد، حين أعلنت أنقرة شمال سوريا "منطقة أمنية" يحظر على الجيش السوري دخولها، مرتكزة إلى حجّتين رئيسيّتين: الحفاظ على الأمن القومي التركي وإعادة اللاجئين السوريين.
"المنطقة الأمنية" أو "العازلة" التي انشأتها تركيا بالتنسيق مع روسيا وإيران في عهد الأسد، جعلت منها فاعلاً مؤثّراً في الساحة السورية، وشريكاً في الملف السوري على المستوى الدولي، بحقوق تمثيل حصرية للمعارضة السورية.
تطمينات دمشق غير كافية
لقد دأبت السلطة الجديدة في سوريا، منذ وصولها إلى الحكم، على إرسال التطمينات إلى دول الجوار، وعلى رأسها إسرائيل، بدءاً من أعلى رأس الهرم، والمتمثل بالرئيس الانتقالي أحمد الشرع، الذي أكّد التزامه اتفاقية عام 1974 الموقّعة بين دمشق وتل أبيب غداة حرب تشرين وإعادة المراقبين التابعين للأمم المتّحدة، مروراً برئيس وزرائه أسعد الشيباني، وصولاً إلى محافظ دمشق الذي تجاوز صلاحيّاته الإدارية للحديث في السياسة مطمئناً الجارة الجنوبية.
وتؤكد دمشق باستمرار عدم نيّتها الدخول في "أي صراع سواء مع إسرائيل أم مع أي شخص آخر، وعدم السماح باستخدام سوريا نقطة انطلاق للهجمات".
بالشكل، تبدو هذه التطمينات كافية لتل أبيب، مع الأخذ في الاعتبار افتقاد سوريا اليوم الإمكانات العسكرية والاقتصادية التي تخوّلها تهديد جارتها الجنوبية. فالجيش السوري اليوم لا يتعدّى كونه قوات لحفظ النظام أو مكافحة الإرهاب في أفضل حالته، وهو مكوّن من عدد كبير من الفصائل المسلّحة غير المتجانسة بل والمتصارعة في ما بينها ميدانياً.
كما أن الضربات التي قامت بها إسرائيل خلال الأيام الأولى لسقوط الأسد، قضت على جزء كبير من الترسانة العسكرية المتهالكة أصلاً لسوريا، والتي لم يتم تجديدها طوال سنوات الحرب على الأقل، ما يعني غياب الأسلحة المتطوّرة والمعدّات النوعية التي يحتاجها أي جيش للدفاع عن نفسه ضد الهجمات الخارجية، وعلى رأسها أنظمة الرادار والدفاع الجوي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشرعية المنقوصة للشرع، الذي لا يزال يصارع من أجل حذف اسمه وأسماء العديد من رجالاته العسكريين والبيروقراطيين من قوائم الإرهاب، وانتشار فصائل مسلّحة رافضة لسلطته في جنوب البلاد، كما حال قوّات أحمد العودة أو "اللواء الثامن" في درعا، و"المجلس العسكري" والفصائل الدرزية الأخرى في السويداء، تنفي أي احتمال لتهديد إسرائيل في المستقبل القريب على الأقل.
خطة استباقية ضد الابتزاز التركي
قلق إسرائيل يتجاوز قدرات الإدارة الجديدة في دمشق، وحتى نيّتها، ليمتد إلى تفادي تكرار التجربة السابقة في عهد الأسد، والمتمثّلة بسلطة مركزية ضعيفة متحالفة مع عدو قادر على تهديد تل أبيب أمنياً، مع تبديل الفاعل الإيراني بالتركي اليوم.
وتحتفظ تركيا بـ 129 نقطة عسكرية على الأراضي السورية، تتركّز في مناطق سيطرتها عبر فصائل "الجيش الوطني" شمال البلاد، وأخرى بناء على اتفاقيات خفض التصعيد في مسارات استانا وسوتشي.
وسبقت زيارة الشرع تركيا بداية الشهر الجاري، تسريبات من وسائل إعلامية مقرّبة من الحكومة التركية تفيد بنية أنقرة ترسيخ وجودها العسكري في سوريا من خلال اتفاقيّات أمنية وعسكرية تفضي إلى إقامة قواعد لقوّات برّية وجوّية وإنشاء منظومة دفاع جوي وسط البلاد لحماية الأجواء السورية من الضربات الإسرائيلية.
الخطّة التركية دفعت تل أبيب إلى رسم خط أحمر جنوب دمشق، ومنع أي وجود عسكري سوري في هذه المنطقة، إلى جانب التذكير المستمر بعدم شرعية الحكومة الحالية، إذ وصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الإدارة الجديدة في سوريا بأنها "جماعة إسلامية جهادية إرهابية استولت على دمشق بالقوة"، واتّهمها بـ"الانتقام من العلويين وايذاء الأكراد"، وذلك في محاولة لنزع شرعيّتها للطعن في أي اتّفاق تبرمه مستقبلاً.
وتخشى إسرائيل من استغلال أنقرة وجودها العسكري "الشرعي" في سوريا عبر اتّفاقات مع الحكومة السورية القادمة، بعد أن تنال التفويض والاعتراف الدولي، وممارسة المزيد من الضغوط عليها لانتزاع مكاسب مباشرة أو من الإدارة الأميركية، إلى جانب توسيع مجال تأثيرها عبر القوّتين الناعمة والصلبة إقليمياً.
لذا، من المتوقّع أن يستمر التصعيد الإسرائيلي ضد الإدارة السورية الجديدة، ليس خوفاً من إمكاناتها العسكرية المعدومة، بل كإجراء احتياطي لعدم تحوّلها إلى ورقة ضغط بيد تركيا.