بوتين والشرع... لتجاوز الإرث المؤلم واستئناف العلاقة وسط حقول ألغام

قد لا يكون من السهل تحديد طبيعة العلاقة الروسيّة – السوريّة أو التكهّن بالمسار المحتمل لتطورها بعد سقوط نظام بشار الأسد، قبل أن تتكشّف كل تفاصيل ذلك السقوط وما تخلله من مواقف وأدوار روسية. وفي ظل عدم اكتمال المعلومات حول ذلك، جاء اتصال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس سوريا الانتقالي أحمد الشرع، الأربعاء، ليكشف عن عدم سهولة تمزيق –كما تطالب دول أوروبية- علاقة مديدة ربطت بين البلدين مدى عقود طويلة، رغم كل ما تخللها من انتكاسات أحياناً أو "إرث مؤلم" كما وصف وزير الخارجية التدخل الروسي العسكري في سوريا، أحياناً أخرى. فهذه العلاقة متشابكة ومتغلغلة في كل القطاعات وعلى كل الصعد، لا سيّما منها العسكرية والسياسية والاقتصادية، ناهيك بعدم سقوط منظومة المصالح المشتركة والمتقاطعة مع سقوط النظام الحاكم.
ويعبّر اتصال بوتين بالشرع الذي كان قبل شهرين من ألدّ أعداء روسيا، ليس لأنه قاتل ضد نظام الأسد فحسب بل لأنه أيضاً متهم بتنفيذ عمليات إرهابية في الداخل الروسي وله علاقات استخبارية وعسكرية مع أوكرانيا، عن رغبة البلدين في تجاوز حقبة "الحرب السورية" وأحداثها وامتداداتها بهدف إعادة استئناف العلاقة وفق أسس جديدة، تخدم مبدأ "تصفير المشاكل" الذي تنطلق منه الديبلوماسية السورية الجديدة، وكذلك تضمن الحفاظ على المصالح المشتركة بينهما.
وبينما تحرص موسكو على ضمان وجودها على البحر المتوسط عبر قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، نظراً الى أهمية ذلك لدورها ومصالحها الجيوسياسية، خصوصاً في أفريقيا، وتترقب كذلك مصير استثماراتها في حقل الفوسفات وفي بعض المجالات الأخرى، تجد سلطة دمشق الانتقالية أن لا مفرّ من الحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا، بسبب اعتماد المنظومة العسكرية السورية السابقة على التقنية الروسية، وللحاجة إلى صوت موسكو في مجلس الأمن والعديد من المحافل الدولية لإزالة أحمد الشرع و"هيئة تحرير الشام" عن قائمة الإرهاب، وكذلك نتيجة عدم وضوح مآل تدخل بعض الدول في سوريا مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تعتقد دمشق أن روسيا من شأنها أن تلعب دوراً في موازنة هذه الأدوار أو ضبط تداعياتها أو تخفيف آثارها.
ولا شك في أن السلطة الانتقالية تبدو كأنها تسير في حقل ألغام وهي تعيد هندسة علاقتها بروسيا، بسبب الضغوط التي تتعرض لها من بعض الدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا من أجل عدم السماح لموسكو بلعب أي دور في مستقبل سوريا، وكذلك نتيجة المزاج الشعبي المنقسم إلى فئتين، فئة ترفض أي علاقة بروسيا بسبب ما تسميه جرائم روسيا ضد الإنسانية، وفئة تجد تناقضاً بين العفو المبكر عن بعض الدول والإصرار على معاقبة جزء من الشعب السوري لدعمه بشار الأسد.
ويبدو أن ذلك انعكس بشكل أو بآخر على مسار تصحيح العلاقة الذي تخللته في الأسبوع الماضي عقبات عدة، تمثلت أولاً في تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بوجود مشاكل لدى السلطات الجديدة في سوريا، وإشارته إلى أن الحوار الداخلي في سوريا لا يسير على نحو جيد، الأمر الذي يعبّر ربما عن تحفّظ روسي عن خريطة طريق المرحلة الانتقالية أو بعض بنودها. وتمثّل كذلك في إعاقة مرور قافلة عسكرية روسية من قاعدة حميميم في ريف اللاذقية إلى طرطوس، وهو ما يمكن تفسيره على أنه جاء بمثابة رد سوري على تصريح لافروف أو نوع من الضغط على موسكو كي لا تتدخل في الشأن الداخلي الذي ترغب السلطة الانتقالية في هندسته وحدها.
ورغم أن موسكو قللت من أهمية إلغاء عقد استثمار مرفأ طرطوس بذريعة أن الشركة المتعاقدة هي شركة روسية - سورية عائدة إلى القطاع الخاص، وليست شركة مملوكة من الدولة، فإن هذا الإجراء ينمّ عن مدى تعقيد العلاقة بين الجانبين، وعن مدى صعوبة أخذ إشارات من شأنها الدلالة إلى مصير هذه العلاقة.
وجاء اتصال بوتين بالشرع بعد أسبوعين من زيارة وفد روسي برئاسة ميخائيل بوغدانوف دمشق، وُصفت المحادثات التي أجريت خلالها بأنها جيدة وبنّاءة، مع إشارة الخارجية السورية إلى ضرورة إصلاح أخطاء الماضي. وفيما لم يتأكد إذا كانت دمشق طالبت موسكو بتسليم الرئيس الفار بشار الأسد لمحاكمته، كان لافتاً أن يظهر نجل الأخير حافظ عبر فيديو قصير من أحد شوارع موسكو، ليؤكد صحة امتلاكه حسابي "أكس" و"تلغرام" اللذين نشرا رسالة حول أحداث الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام.
وليست هذه المصادفة الوحيدة -إن صح وصفها كذلك- التي تحدث بالتزامن مع كلّ اتصال بين روسيا وسوريا، إذ جاء انعقاد "مؤتمر النصر" الذي فوض الى الشرع رئاسة البلاد بعد يوم من زيارة بوغدانوف، بينما أعلنت الرئاسة السورية تشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار السوري بعد ساعات من اتصال بوتين والشرع.
وفي المحصلة، يبدو أن هذا الاتصال سيؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين قد تتضح بعض ملامحها بعد زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني موسكو تلبية للدعوة الموجهة إليه، غير أن ذلك سوف يتطلب تقديم تنازلات ودفع أثمان من الجانبين قد لا يكون بمقدورهما الوفاء بها بسبب ظروف كل منهما.