إلغاء قرارات "البعث" تمليك أراضي الكرد والتركمان للعرب بين ترحيب وتعقيدات

في خطوة سياسية وقانونية استثنائية، أقر البرلمان العراقي تشريعاً يلغي القرارات التي كان قد أصدرها "مجلس قيادة الثورة"/ حزب "البعث" حاكم العراق سابقاً، الخاصة بمصادرة العقارات والأراضي الزراعية في "المناطق المتنازع عليها"، بالذات في محافظة كركوك، ما قد يخلق تأثيرات سياسية واجتماعية في تلك المناطق، ويؤثر على حالة الهدوء فيها.
التشريع الذي سُمّي "قانون إعادة الملكية لأصحابها الأصليين" أُقر ضمن سلة تشريعات "توافقية" لإرضاء جميع الفرقاء السياسيين والأهليين العراقيين، الأكراد والسُنة والشيعة. فإلى جانبه، وافق البرلمان على إصدار قانون عفو عام، من المتوقع له أن يُطلق بموجبه سراح قرابة 80 في المئة من المعتقلين المتهمين بدعم الإرهاب، أغلبيتهم المطلقة من المناطق السُنية. كما أصدر البرلمان تشريعاً يُعدل قانون الأحوال الشخصية المعمول به في العراق منذ عام 1959، تلبية لمطالبة الأوساط السياسية الشيعية العراقية.
وبحسب القانون الجديد، فإن قرابة 300 ألف دونم (75 ألف هكتار) من الأراضي الزراعية سيسترجعها أصحابها الأصليون من الكُرد والتركمان في محافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين وديالى، ومثلها عشرات الآلاف من العقارات التي استولى عليها النظام السابق، لأسباب سياسية، مثل مصادرة أملاك المعارضين السياسيين الأكراد والتركمان في تلك المناطق، أو تأميم استثماراتهم الاقتصادية، أو حتى الاستيلاء عليها لمصلحة وزارات الدفاع والمالية والزراعة، تحت مسمّى "المصلحة العامة"، عبر سلسلة من القرارات الخاصة التي صدرت منذ عام 1975 حتى عام 2003، وكانت بمجملها تستهدف تحقيق "التغيير الديموغرافي" وتعريب تلك المناطق المتنازع عليها. والأغلبية المطلقة من تلك المناطق تم تمليكها مباشرة لفلاحين وموظفين عرب مُستقدمين من باقي مناطق العراق لغرض التعريب.
هذه القرارات تسببت منذ عام 2003، بعد سقوط النظام السابق، بتنازع سياسي وتوترات شعبية كبرى في تلك المناطق. فالفلاحون العرب كانوا يرفضون إخلاء الأراضي والعقارات المملوكة لهم، مستندين إلى وثائق ملكية واضحة في حوزتهم، لم تستطع حتى المحاكم الفصل بها بشكل واضح، لتناقض القوانين بشأنها، فالمادة 140 من الدستور العراقي، وإن كانت تنص على ضرورة تصفية إرث عمليات التعريب في المناطق المتنازع عليها، لم تلغِ تلك القوانين تفصيلاً.
وطوال أكثر من عامين منصرمين، حدث جدال سياسي وشعبي واسع بشأن إمكان إصدار مثل هذا التشريع المُلغي لقرارات النظام السابق. فالأوساط الكردية والتركمانية كانت تعتبره ضرورة حتمية، لتحقيق مبدأ العدالة وإعادة الحقوق إلى أصحابها، بل وتعويضهم عن أكثر من نصف قرن كانت خلالها ممتلكاتهم الزراعية والعقارية في حوزة غيرهم، بل هُجّر عشرات الآلاف منهم، بعدما أُجبرت عائلات آلاف النشطاء السياسيين الكُرد والتركمان على العيش في مخيمات مغلقة خارج مدنهم، بعد مصادرة ممتلكاتهم.
القوى السياسية والشعبية العربية السُنية كانت تعتبر أن صدور هذا التشريع المُلغي لقرارات "البعث" سيؤثر على الاستقرار الاجتماعي في تلك المناطق. فعشرات الآلاف من السكان صاروا يسكنون هذه المناطق منذ قرابة نصف قرن، وشيّدوا حياتهم وأنماط عيشهم ومصادر دخلهم بناءً على هذا الاستقرار. في الوقت نفسه حدثت تغييرات هائلة على تلك الأراضي خلال هذه السنوات. فمعظم العقارات التي كانت عبارة عن دور وبيوت طينية واسعة، هدمها المالكون الجدد وأعادوا بناءها على شكل أبنية عالية، كما تم بيع الكثير منها لأناس آخرين، ما يعني تعقيداً قانونياً قد يجلب اضطراباً كبيراً.
لكن المدافعين عن القانون يقولون إنه رغم ذلك يعوّض المُلاك المستقدمين بحسب بنود المادة 140 من الدستور العراقي، ليعيدوا تشييد حياتهم من جديد بعد ترك الممتلكات التي حصلوا عليها بقرارات استثنائية، فهي لم تتم عبر عمليات بيع وشراء نظامية وحرة.
الكاتب والباحث زاهر رتيب شرح لـ"النهار" ما سمّاه آلام إرث الشمولية السياسية على الحياة العامة، منوّهاً بإيجابية هذه القرارات رغم صعوبة تطبيقها مباشرة. وقال: "المسألة تشبه إعادة محاولة تشييد عمارة على أطلال تحطمها، فما فعله النظام العراقي السابق هو لعب وتعكير وتحطيم لجوهر الأشياء، أي شكل العلاقة بين الجماعات الأهلية في البلاد، طوال نصف قرن، ومحاولة تحطيم جماعة أهلية كانت تشكل أكثر من نصف سكان المنطقة المستهدفة، التي كانت تزيد مساحتها عن 50 ألف كلم مربع، وسكانها عن عشرة ملايين نسمة. الأمر خلق تراجيديا رهيبة، لأن إعادة الحقوق، وهي مسألة عادلة تماماً، تعني فعلياً تفكيك شكل الحياة الحالية وما استقرّت عليه المجتمعات في هذه المنطقة طوال عقود. لكن مع كل ذلك، سيوجه صدور تشريع إلغاء قرارات البعث إنذاراً ورسالة إلى كل الطبقات والتنظيمات السياسية، مفادهما أن السياسات الشمولية ليس لها أفق، وسيتم إلغاؤها ولو بعد نصف قرن".
أغلب الساسة والقادة الكُرد والتركمان رحّبوا بصدور هذا التشريع، وطالبوا بتطبيقه مباشرة، فيما حذر نظراؤهم العرب من آليات تطبيقه، وما قد تجره من تأثيرات وإمكانية للصدام بين المتنازعين.