مسيحيو العراق يحيون الميلاد ورأس السنة: كل شيء يتغير والهجرة التحدي الأكبر

يبدأ مسيحيو العراق في النصف الثاني من شهر كانون الأول (ديسمبر)، تزيين كنائسهم ومنازلهم ترحيباً بعيد الميلاد وبرأس السنة الميلادية الجديدة، من ضمن طقوس دينية يتفاعل معها العراقيون من مختلف الديانات.
"النهار" واكبت تلك الاحتفالات في العديد من الكنائس، انطلاقاً من مدينة أربيل (مركز إقليم كردستان العراق) ومن ثم مدينة الحمدانية في الموصل، شمال العراق، وانتهاء بالعاصمة بغداد.
2025... الرؤية ضبابية
تبدأ احتفالات الميلاد في مدينة أربيل يوم 13 كانون الأول (ديسمبر)، وتستهل بإقامة أمسية تراتيل صلاة الميلاد تحييها جوقات الأطفال، قبيل افتتاح مغارة الميلاد، طبقاً لحديث مطران أربيل للكلدان بشار متي وردة.
يقول وردة، إن طقوس الميلاد تستمر حتى يقام الحفل الرئيسي في الخامس والعشرين من الشهر ذاته، ويكون مركزياً تشارك فيه كل طوائف المسيحيين في استقبال الضيوف والمهنئين. وتشمل النشاطات أيضاً الاحتفال مع عوائل الفقراء من المسيحيين.
ويضيف وردة: "في بغداد كانت احتفالاتنا تقتصر على ليلة العيد، لكن اليوم صار لدينا أكثر من أربعة احتفالات قبل حلول رأس السنة الميلادية الجديدة"، عازياً ذلك إلى انتشار "وسائل التواصل الاجتماعي، فقد بدأنا نتعرف من خلال تلك الوسائل إلى طقوس الطوائف في العالم الخارجي واحتفالاتها، وهم أيضاً صاروا يتطلعون إلى طقوس احتفالاتنا".
وفي الشق السياسي يرى مطران الكلدان في أربيل أن "الشرق الأوسط منفتح اليوم على سيناريوات جديدة، فلا أحد يدرك بوصلة الوجهة الجديدة. هناك ضبابية في المشهد السياسي، وليس أمامنا إلا ترديد ترنيمة الملائكة: "المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر".
ويخلص وردة إلى القول: "كلنا أمل ورجاء بأن تكون هناك إرادة صالحة لينعم الشرق الأوسط بكل دياناته وطوائفه بالسلام".
"احتفالات أيام زمان كانت أجمل"
في مدينة عين كاوة التي تعد معقل المسيحيين في أربيل، يبدأ الناس قبل أسبوع من الميلاد بتحضير الأكلات الشعبية والمعجنات: لكليجة والكبة والبمبار، تقول وارينا متي.
متي (70 عاماً) التي انتقلت قبل سنوات من الموصل إلى عين كاوة، تقول إن المسيحيين يبدأون قبل رأس السنة الميلادية بعشرة أيام أو 15 يوماً التحضير للاحتفال: "ننظف البيت، ونزينه، وننصب أشجار الميلاد".
وتضيف: "في ليلة العيد نذهب إلى الكنيسة، لممارسة طقوس الميلاد، وتبادل المعايدات، ونقيم احتفالاتنا في المنازل. وهناك من يقيمها في الكنيسة".
"الطعم المختلف" يشد متي بالحنين إلى احتفالات الماضي: "رغم بساطته كان أجمل، إذ كانت تمتلئ المنازل بالاحتفالات وتبادل الزيارات. المنطقة كلها تحتفل وتتبادل التهاني والمعايدات، لكن اليوم يحتفل كلٌّ في منزله، وربما تتم زيارة الأهل.
في السابق لم تكن هناك أشجار مزينة ولا تحضيرات وبهرجة "لكنه أجمل"، تقول : "حتى رجال الدين ورعاة الكنائس كانوا يزوروننا في منزلنا، ويقيمون الصلوات. لكن هذا انتهى الآن".
"المسيح سيخلصنا من كبوتنا"
في مدينة الحمدانية، التقت "النهار" المعاون القضائي لأبرشية السريان الكاثوليك في مدينة الموصل الخورسقف الدكتور فارس تمس الذي يذكر أن ليلة الرابع والعشرين من شهر كانون الأول هي ليلة عيد الميلاد المجيد في "مدينتا الخالدة قرقوش: مركز السريان الكاثوليك" في العراق.
ويوضح تمس أن طرق الاحتفال لدى المسيحيين تختلف من مدينة إلى أخرى، من ناحية التزيين والطقوس، لكن كل ذلك يتمحور حول استقبال يسوع المسيح فادي الأنام الإله المتجسد عمانؤيل الذي صار إنساناً لكي يخلصنا من كبوتنا ومهانتنا"، لافتاً إلى أن "منازل المسيحيين في هذه الأيام تشهد تزيين الأشجار وإعداد الأكلات الشعبية والحلويات".
ويشرح أن محافظة نينوى تقطنها طوائف عديدة من المسيحيين، من بينهم السريان الكاثوليك، السريان الأرثوذوكس، الكنسية الآشورية بشقيها، والكنائس الإنجيلية، لكن الطائفة الكبرى هي الكلدانية.
ويذكّر بأنه خلال حرب "داعش" التي استمرت أكثر من ثلاث سنوات، بعد سيطرة التنظيم الإرهابي على مدينة الموصل، في شهر حزيران (يونيو) عام 2014، تم تفجير كل الكنائس والأديرة المسيحية، وكانت نسبة التدمير تتراوح بين 80 و100 في المئة، ونهبت المخطوطات وعُبث بالمقدسات، لكن "في مقابل الأيدي السوداء هناك أياد بيضاء (منظمات مدنية، دول، يونسكو وغيرها)، مدّت يد العون إلى المسيحيين كي ينهضوا من كبوتهم التي فرضتها دولة "داعش" التي تدعي الإسلام ظلماً وبهتاناً"، مشيراً إلى أنه تم إنجاز العديد من كنائس السريان الكاثوليك، من بينها كنيسة مار توما بالكامل، وبواسطة أياد عراقية خالصة، مسيحيين ومسلمين".
لكنه يستدرك بالقول: "رغم الأجواء المستقرة، فإن عودة المسيحيين إلى مدينة الموصل ضئيلة جداً، إذ إن من أصل 3 آلاف عائلة، لم يعد حتى الآن أكثر من 50 إلى 60 عائلة فقط، بعد أن نفذ الهدوء والرجاء إلى قلوب هؤلاء الناس، الأمر الذي يشكل بارقة أمل".
ويتمنّى تمس للعراق، وللوطن العربي والأمة العربية والعالم بأسره أن يعمّ الأمن والسلام: "ما أحوجنا نحن اليوم إلى السلام، حيث تقف منطقتنا على كف عفريت من التغييرات الديموغرافية والسياسية والاقتصادية، والتي وصلت إلى أسوأ حالة في تاريخ هذه الأمة".
حادثة القاعة فجعت الناس
نيران حبيب، مواطنة مسيحية من أهالي قرقوش في الحمدانية، كانت تزين أشجار الميلاد في إحدى الكنائس، تلخّص لـ"النهار" أمنياتها بأن "ترجع أيام زمان: بيوتنا ممتلئة بالأهالي، شوارعنا زاهية بالألوان، والسلام يعم بلدنا".
تقول حبيب، وهي ربة بيت اعتادت زيارة الكنيسة في قرقوش، لإحياء الطقوس الدينية : "نحن بصراحة كمسيحيين عادة ما نظهر أنفسنا أمام الآخرين بأننا فرحون، رغم الحزن. ما حصل خلال العام الماضي في قاعة العرس في الحمدانية أفجع جميع مسيحيي الموصل والعالم. لكن الحياة يجب أن تستمر".
وكانت احتفالات الحمدانية، قبل حادثة القاعة "كلش حلوة" بحسب وصف حبيب: "الناس تجتمع في أماكن الاحتفالات. ومنازلنا تمتلئ بالمحتفلين، حتى هزت تلك الفاجعة منطقتنا".
إن ما يتعب أهالي قرقوش، بحسب حبيب، هو "البطالة، الظروف المعيشية، والهجرة؛ غالبية أهلنا هاجروا، لأنهم يعتقدون أن الحياة الجميلة تنتظرهم خارج حدود هذا البلد".
"النهار" في كنائس بغداد
وفي العاصمة العراقية بغداد كانت لـ"النهار" لقاءات عديدة مع رعاة وقساوسة من مختلف طوائف المسيحيين. رئيس كنائس الاتحاد المسيحي الإنجيلي القسيس جوزيف فرنسيس يشرح قصة ميلاد المسيح، قائلاً: "إنها ليست قصة اعتيادية، بل فريدة من نوعها: إن امرأة بلا رجل تحبل وتلد إبنا. وهذا الولد الذي حملت به العذراء هو كلمة الله وروح الله، الذي حل على مريم وتجسد وصار إنساناً بيننا. لهذا نحتفل بعيد ميلاد رب المجد يسوع البشير".
ويصف فرنسيس العيد بأنه "مميز، فيه الكثير من الطقوس، الكثير من التراتيل، من التسابيح، والصلوات والمواعظ التي لها علاقة بموضوع ميلاد رب المجد يسوع المسيح، الذي تحدثت عنه الكثير من النبوءات قبل ميلاده بآلاف السنين، لذلك هناك حاجة لأن تتفتح عيون شعوبنا على الأمور الكتابية الموجودة في كلمة الله".
ويشير إلى أن "نصوصنا الإنجيلية التي تتحدث عن ميلاد المسيح ثابتة، لكن ممارسة الطقوس تختلف من طائفة إلى أخرى: مثلاً الأرمن الأورثوذكس يحتفلون في يوم 25 كانون الأول (ديسمبر)، بينما الكنيسة الشرقية الأورثوذكسية القديمة تعيّد يوم 7 كانون الثاني (يناير)، وبالتالي هنالك اختلاف في الطقس الميلادي. أقصد اختلاف في التوقيت. ناس تحتفل بالتوقيت الشرقي، وآخرون يحتفلون بالتوقيت الغربي، بحسب طبيعة الطائفة والكنيسة".
الهجرة.. التحدي الأكبر
وجعلت الأحداث وما تشهده المنطقة من نزاعات وحروب وصراعات، المسيحيين "في حالة ترقب مستمر. نعم، هناك بعض المخاوف. لكننا أبناء الرجاء. نؤمن بأن المسيح حي، ولن يترك كنيسته تجرب أكثر مما ينبغي"، تابع.
ويرى فرنسيس أنه ليس أمام المسيحيين إلا الصلاة "كي يأتي الرب بالسلام على هذه المنطقة. نحن دعاة سلام. لا نريد أن تخلو منطقتنا العربية من المكون المسيحي، فنحن مكون أساسي وأصيل وقديم".
ويشير الى أن واحداً من أكبر التحديات التي تواجه مصير هذا المكون في العراق، هو الهجرة إلى الخارج، فـ"بسبب عدم الاستقرار صار ناسنا يبحثون عن مكان آمن، وعندما يكون هناك مكان آمن وأبوابه مفتوحة أمامك، تكون مجبراً على ألا تحمّل نفسك أي أخطار ومغامرة بحياتك وحياة عائلتك. هذا باعتقادي هو التحدي الأكبر لنا".
ومع هذا الحال، يكون دور الكنيسة متمحوراً حول نصيحة واحدة، طبقاً لفرنسيس: "تزوجوا الأرض. هذه أرضكم. هذا بلدكم. لكن في النهاية هناك قرار شخصي. فالكنيسة لا تقدر أن تفرض عليك عدم السفر وتتحمل مسؤوليتك. لكنها مجبرة على توجيه النصح وتقديم المشورة".
تفاعل المسلمين مع أعياد الميلاد
سارة توفيق، محامية وناشطة في التنمية البشرية، التقتها "النهار" في إحدى كنائس بغداد، تقول: "أنا مسلمة لكنني اعتدت الحضور إلى الكنيسة في مثل هذه الأيام. فنحن نشارك المسيحيين أفراحهم وأحزانهم وهم كذلك يفعلون معنا".
وتعتبر توفيق أن إحياءها هذه الطقوس يمثل واجباً اجتماعياً "من باب الأخوة"، مشيرة إلى أن "بلدنا يمتاز بتعدد المذاهب والطوائف والأديان. والمسيحيون من أفضل الناس في الوسط المجتمعي، لذا أجد أن وجودي هنا ضرورياً وواجباً".
"الخبر السار"
يقول مسؤول مكتبة كنيسة "يسوع نور العالم" ألبير الياس، إن "ذكرى أعياد الميلاد ليسوع المسيح ورأس السنة المجيدة، ليست مجرد شجرة مزينة وملابس جديدة وأكلات طيبة، فهذه تجسد الفرح الخارجي فينا. أما العيد الحقيقي فهو الخبر السار الذي سكن في قلوبنا".
ويضيف، أن ملاكاً من السماء أرشد رعاة يحرسون قطعانهم وأضاء مجد الرب حولهم فخافوا خوفاً عظيماً، لكن الملاك قال لهم لا تخافوا. ها أنا ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. اليوم ولد المخلص الذي سيعطيكم الفرح الأبدي".
ويذكر أن "المسيح سينطلق من أرض الميعاد لخلاص كل العالم، وتأسيس المملكة الأبدية، الروحية والسماوية. الناس تتصارع على الأرض (فلسطين)، وهي أرض فانية، لذلك يقول النبي هوشع "قد هلك شعبي من عدم المعرفة". بمعنى أنهم يتصارعون على أرض فانية، ويتركون المملكة الأبدية".
الأب فارتان جلوف في كنيسة "سيدة الزهور" للأرمن الكاثوليك في بغداد، يستهل حديثه بتمني أن يكون ميلاد المسيح لهذا العام 2025 ميلاد خير وصحة وسلام لكل العالم، وبخاصة للوطن العربي بأجمعه.
ويقول إن احتفالات طائفة الأرمن الكاثوليك في بغداد تبدأ بإقامة القداس، يوم 25 كانون الأول (ديسمبر)، وتستمر، مشيراً إلى أن طائفته تلقى ترحاباً واحتراماً كبيرين في الأوساط المجتمعية العراقية، لا سيما بين المسلمين.
ويعتبر جلوف أن بيئة العراق تشكل حاضنة لكل الأديان والطوائف، ومشيراً إلى أن "ما تشهده المنطقة من أحداث وأزمات نتعاطف معها بشكل كبير، لأن مصيرنا واحد. نحن نبحث عن السلام دائماً"، معرباً عن أمله في أن "يعم السلام في سوريا ولبنان وكل بلدان الوطن العربي، التي مرت بظروف قاهرة ووضع مأسوي في 2024".
وتبقى أمنية الأب فارتان الوحيدة هي السلام والتخلص من هذه المآزق وتنتهي الحروب.
ولادة المسيح تعني التغيير
راعي كنيسة الروم الكاثوليك في بغداد الأب منهل كامل سلوم يشرح أن بالنسبة إلى العوائل المسيحية، هناك تقاليد خاصة بها في عموم العراق، تشمل إعداد الأكلات والمعجنات. والأهم من ذلك أننا نبدأ قبل 15 يوماً من الولادة فترة صوم وتوبة، واستقبال طفل المغارة، لكي ينور قلوبنا وعقولنا، وهذا يجب أن يصاحبه تغيير إيجابي: أن تنسى الماضي بسلبياته وتنتقل إلى النور، لأن ولادة المسيح تعني إشراقة النور في داخل قلب الإنسان. وإذا لم يحصل تغيير، فمعنى هذا أن المسيح لم يولد".
ويشير إلى أن "الصراعات الطائفية والظروف المأسوية التي مر بها العراق أثرت في الجو العام، لكن بلادنا بقيت صامدة في مواجهة تلك الأزمات، وحافظ الناس على عراقيتهم: نريد أن يكون هناك عراق أولاً ومن بعده الكنيسة. فنحن ننتمي أولاً إلى هذا الوطن ومن بعده لتكن هناك كنائس".
ويرفض الأب منهل مصطلح "الأقلية"، قائلاً: "يجمعنا عراق واحد، ومختلف العراقيين يشاركوننا الاحتفال في عيد رأس السنة الميلادية، بخاصة في مدينة بغداد".
وللأب منهل كانت هناك أمنية مختلفة: "أن يكون جميع العراقيين مرفوعي الرأس في كل مكان. وأن يكون لدينا جواز سفر معترف به في جميع أنحاء العالم، وفي مقدمة تلك الدول الولايات المتحدة وأن لا نتعرض لأي مساءلة في بلد، فهذا ما يستحقه العراقيون".