ظاهرة الوشم تنتشر في سوريا... نقش الذكريات على الأجساد وموضة عالمية

شاعت في السنوات الأخيرة ظاهرة نقش شباب سوريين أوشاماً على أماكن متفرقة من أجسادهم، منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو تحت الثياب، وهو أمر حديث الانتشار في المجتمع السوري.
لم يأتِ من عدم
ليس الوشم جديداً كلياً في سوريا، لكنه كان مقتصراً على فئة محدودة، ومرتبطاً بأشخاص ينظر إليهم نظرة سلبية، بوصف فعلتهم سمة عارٍ ترتبط بلا وعي تربويّ، وميولٍ غير صحية، وتربط الوشم بصورة السجناء والأشخاص الخطيرين، لدرجة أنّه في عزّ ثورة انتشار تلك الرسوم على أجساد لاعبي كرة القدم العالميين كان يصعب، بل يكاد يكون مستحيلاً، تمييز لاعب كرة قدم سوري يضع وشماً.
في علم النفس
يربط علماء النفس استخدام الوشوم بانعكاسات الحرب التي تبدّل المفاهيم، وتجعل طلب التغيير في الشكل وسيلة للقناعة والرضا والهروب من أمر ما، فيما يعتبر الوشم جزءاً من الثقافة الليبرالية الحديثة التي تحاربها سوريا على المستوى الرسمي، باعتبارها خطراً يحدق بالمجتمع وأشخاصه ومفاهيمه المحافظة عبر الزمن.
تصف عالمة النفس الروسية كاترينا غوركوفا الرغبة في الحصول على مزيد من الوشوم بأنها تعود إلى اضطراب نفسي. ويُمكن أن تشير الرغبة الشديدة في الحصول على وشم آخر إلى مشاكل نفسية. وفي بعض الأحيان لا يحتاج الإنسان إلى وشم، بل يحتاج إلى مساعدة.
تقول: "الوشم هو محاولة من الواشمين للتعبير عمّا يصعب نقله إلى المجتمع بكلمات، واستعراض مواقفهم من الحياة، أو تسجيل أحداث مهمّة فيها، في محاولة لتخليدها على الجسد. ويمكن أن يكون الوشم محاولة غير واعية لتتبع الموضة أو بعض النزعات الاجتماعية. ويتجرّأ الناس على اتخاذ مثل هذه الخطوة مدركين تماماً أن الوشم سيبقى معهم مدى الحياة".
للذكرى وليس للثأر
يضع شابٌ اسمه ميّسر شعباني وشماً أعلى عظمة الصدر، تحمل تاريخ 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، مرسوماً بطريقة فنيّة، وإلى جانبه صورة وجهٍ صغير لرجل. ذلك التاريخ والصورة لم يكونا إلّا دلالة على يوم مقتل والده بعد اختطافه خلال مروره في حيّ الخالدية في حمص في العام الأول من الحرب.
يقول الشاب: "في هذا التاريخ توقفت حياتي، كان لا بدّ من أن أضعه على جسدي لئلا أنساه طوال حياتي. إنّه يوم استشهاد والدي رمياً بالرصاص الحيّ. ليس الوشم هذا تذكيراً بثأر إطلاقاً، ولكنّه تذكير بيوم رحل فيه رجلٌ لم أعرف بعظمته أحداً، إنّه والدي".
ليس اليوم
في إطار مقارب وأكثر تحدياً تضع الشابة ميساء ببيلي وشماً باللغة الإنكليزية، ترجمته تقول: "ليس اليوم" – "Not Today". ولذلك، الوشم قصّته معها، تقول: "وضعته عام 2013، وكنت أقصد أنني لن أموت اليوم؛ وفي كل يوم أراه صباحاً، ثم أخرج من المنزل متحديةً الظروف والحرب. ليس مجرد وشم، إنّه رسالة، رسالة تخبرني بأنني لن أموت في هذا اليوم".
بين الملل والموضة وخرق الحصار
تنحو معظم الفتيات إلى وضع ريشة أو عصا سحرية أو طيور أو شكل جنيّة صغيرة أو فراشةٍ أو زهورٍ على أكتافهنّ، وتتقارب أسباب معظمهنّ في اختيار هذه الأشكال الأنثوية من التعبير عن النفس.
كثيرات منهنّ، ممن التقتهن "النهار"، ليس لديهنّ موجبات فعليّة لذلك؛ ولعلّ أهمّ جواب جاء من خريجة كليّة الآداب سما الصوفي بقولها: "وضعت وشماً من الملل"، فيما اعتبرته أخرى "موضة جميلة"، وثالثة أكدت أنّه "يزيد الأنوثة"، ورابعةٌ أوضحت بأنّه "خرق لحصار اجتماعيّ عائلي تفرضه الأسر على أولادها في حرياتهم الشخصية".
تتبعٌ سابق لا لاحق
الاختصاصي النفسي غزوان ديب يؤكد لـ"النهار" ما ذكرته العالمة الروسية، مشيراً إلى أن "تتبع رحلة الوشم يجب أن يبدأ من البحث عمّا سبقه، وليس عن لحظة وضعه؛ فالوشم هو نتيجة مرحليّة لحدث عابر، وقد يكون أصبح مستقراً في المنطق الذهني والعقلي".
وأحياناً يكون الوشم محاولة للتمرد على المجتمع والأهل والأسرة والبيئة والمفاهيم العامة السائدة كنوعٍ من الحرية الشخصية في اتخاذ القرار، وأحياناً يكون ناجماً عن رضٍّ نفسي؛ وفي أحيانٍ كثيرة، في الحال السوري، هو مرتبط بشكل مباشر بالحرب وتبعاتها، وما تمكنت من تغييره من مفاهيم، وما حققته، على الرغم من سوادها، من انفتاح على الثقافات الأخرى"، بحسب ديب.
مرآة الجسد وبحث الأنا
الأكاديمي المتخصص في علم الاجتماع سمير قباقيبي، يرى أنّ الوشم ينتج أحياناً من توجهٍ لا يحتمل التعقيد، كالملل من مظهر الجسد في صورة خلقه العادية، فيذهب الناس نحو التجديد، ويكون هذا سبباً كافياً لهم؛ هذا في حال تمّ عزل الحرب كسبب مباشرٍ لتجربة وضع الوشم.
ويضيف قباقيبي "في الحالة السورية نرى توجهاً شبه شامل لاستخدام الوشوم، حتى بين المراهقين والقاصرين، وصولاً إلى الناضجين، حتى ضمن العائلات المحافظة والرافضة. أحياناً تعكس تلك الوشوم الحرب بشكل مباشر، كأن تكون تواريخ لأحداث لا تنسى، فيها فقدُ عزيز أو كارثة، أو صورة أحد رحل، أو وشوم دينية وسياسية".
ويستدل الأكاديمي قباقيبي بمؤلفٍ علميّ اسمه "علامات هوية" للباحث الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي ديفيد لوبروتون، فيستخلص منه أنّ "صناعة الرسوم على الجسد تشهد ازدهاراً كبيراً، بعدما أصبح الجسد مرآة تبحث الأنا من خلالها عن تجسيد دلالات حضوره في العالم، والالتحام مع الذات؛ حيث صارت الوشوم من أدوات إبراز الذات واستعراضها، وليس من قبيل الهامشي أو المتواري".
في الإسلام
يرفض رجال الدين الوشوم معتبرين إياها تغييراً في شكل الخلق، وبالتالي هي أمر مكروه ومنبوذ. ويؤكد الشيخ ياسر جبر أنّ الوشم محرّمٌ في الإسلام لما فيه من تعدٍّ على شكل الإنسان وصورة خلقه الأولى. ويقول لـ "النهار": "خلقنا الله في أفضل تقويم، ولو أراد لنا الوشوم لكان خلقها معنا؛ لذلك هي تعدٍّ على شكل الخلق الأول، وتلاعبٌ به لدرجةٍ بتنا نرى شباباً لا يُرى لون جلد جسدهم من كثرة الوشوم. وقد تأثرت أجيالنا بالحرب، والانفتاح، وما خلّفه المشاهير من فنانين ولاعبي كرة قدم وغيرهم في هذا الأمر، الذي تلقفه مجتمعنا بصورة سريعة".
في المسيحية
ويقول الخوري متّى يازجي، بدوره، إنّ الكتاب المقدس لم يحلّل أو يحرم علانيةً الوشوم، لكن هناك بعض الدلالات التي يمكن من خلالها الاستنتاج، كمثل رسالة الرسول بطرس التي تحذر من الأوثان والأصنام ورسومهم.
ويضيف: "يجب أن نعرف أن أجسادنا ليست ملكاً لنا نتصرف بها كما نشاء، بل هي عطية استأمننا عليها الله بهدف إعلان مجده، فيقول الرسول بولس (أمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ)".