اللقاء التشاوري السوري: لتفعيل العدالة الانتقالية وتعزيز التشاركية في الحكم
شكّل سقوط نظام الأسد في سوريا الإنجاز التاريخي الأهم في حياة السوريين خلال العصر الحديث، إذ مثّل ذلك النظام حلقة الاستعصاء الرئيسية أمام آفاق التغيير في سوريا نحو نصف قرن. ولمناسبة مرور عام على بداية التغيير في سوريا، عقد "اللقاء الوطنيّ التشاوريّ"، الذي يضمّ طيفاً متنوعاً من السوريين على اختلاف مشاربهم السياسية، اجتماعاً في العاصمة البلجيكية بروكسل، حضره عدد كبير من الشخصيات السورية.
انقسم المؤتمر في ثلاث جلسات رئيسية بمحاور نقاشية محددة، سعياً إلى خلق مساحة حوار مفتوحة بين مختلف الفاعلين السوريين، وانطلاقاً من المبادئ والتجارب التي راكمها السوريون خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، مع التركيز على الخصوصيات المحلية ودروس الحوكمة والمقاربات الواقعية لبناء الدولة السورية المقبلة.

في الجلسة الأولى، وعنوانها "عام على سقوط النظام: قراءة عامة في أداء السلطة الحالية بعد عام من الحكم"، تمحور النقاش حول البحث عن إجابات عن الأسئلة الآتية: ما هي مظاهر استمرارية النظام القديم في البنية الإدارية والأمنية والتشريعية والدستورية للسلطة الحالية؟ ما هو موقع المعارضة والمجالس المحلية والمجتمع المدني في صناعة القرار؟ وكيف يمكن تحويل الانتقال من مرحلة إدارة الأزمة إلى إدارة الدولة؟
يرى الشيخ رياض دردار، نائب الرئاسة المشتركة لـ"مجلس سوريا الديموقراطية"، والمشارك في اللقاء أن السلطة الحالية في سوريا لا تعمل جدياً على بناء مشروع دولة، داعياً إلى قراءة الواقع بشكل جديد. ويقول في حديث خاص لـ"النهار" إن المشاركين في اللقاء التشاوري "يقدمون دلائل على أننا سنتوجه إلى بناء مشروع جديد مختلف عن الماضي، فهذا ما سمعناه منهم. بالتالي، أظننا أمام مشروع جديد سيقرأ السيناريوات المقبلة، وكيف يمكن أن تتشكل المواجهة مع النظام الجديد، بالتخاطب المباشر أو بالتفاوض أو بالمعارضة، إلا أن الأهم بالنسبة إلينا هو تبنى العدالة الانتقالية والسلم الأهلي والتشاركية وإدارة التنوع، فهذه مسائل أساسية نعمل على الخوض في مناقشتها".
في الجلسة الثانية، وعنوانها "العدالة الانتقالية، والسلم الأهلي، والتشاركية وإدارة التنوع"، بحث الشاركون في إمكانية صوغ هوية وطنية جديدة في ظل الانقسامات المجتمعية والاستقطاب الوطني، والدروس المستفادة من التجارب المحلية في بناء التفاهم بين المكوّنات الوطنية، وعرضوا الخطوات المطلوبة لتأسيس ميثاق للسلم الأهلي والمجتمعي، وما تحقق فعلياً في مسار العدالة والمحاسبة منذ التحول السياسي. وكان السؤال الأساس: هل تستطيع الدولة الجديدة بناء شرعيتها على العدالة لا الغلبة؟

تقول فرح يوسف، الناشطة السورية في مجال حقوق الإنسان والمشاركة في المؤتمر، لـ"النهار" إن ما نراه اليوم في سوريا هو إعادة إنتاج لنظام الشخص الواحد والعائلة، وإن ملف العدالة الانتقالية مهمل ومعرقل، "فحتى المنظمات الحقوقية والحقوقيين الراغبين بالسير بمسار العدالة الانتقالية محاربون اليوم في سوريا، ولو تحولت هذه العدالة إلى ثأر وانتقام لما رأينا مصالحةً مع روسيا التي أنقذت نظام بشار الأسد سنوات عدة، وكانت الدول التي جرّبت أسلحتها في شمال غرب سوريا، واليوم نرى مصالحة مجانية مع هذا النوع من الانتهاكات بحق الشعب السوري. وأعتقد أننا لا نرى ثأراً إنما مماطلة لكي نرضي المجتمع الدولي ونعطيه الإجراءات الشكلية التي يريدها". وتضيف يوسف: "مهم جداً ألا نستسلم، وألا نشعر بالأحباط. يجب ألا نضيع البوصلة، وهي التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة لكل السوريين، الذين عليهم أن يلتقوا في تحالفات سياسية ويؤدوا فعلاً سياسياً، وأن يبقوا متحمسين، فلا يشعرون أبداً أن في بلدهم أمراً واقعاً".
كانت "السيناريوات المستقبلية لسوريا" محور الجلسة الثالثة، حيث تركز البحث على الصيغة السياسية والإدارية القادرة على تحقيق مشاركة فعلية للمجتمعات المحلية، وتحويل التنوّع السوري إلى مصدر قوة ووحدة، ومسؤولية النخب السياسية في صوغ عقد وطني جديد يحول دون "طغيان الأغلبية"، ودور القوى السياسية والمدنية والاجتماعية لترسيخ مسار سياسي جامع، وقدرة اللامركزية على تشكيل الرافعة لمنع تفكك سوريا، والشروط الفعلية للانتقال إلى دولة المؤسسات المنتخبة، وكيفية منع انزلاق البلاد نحو حرب أهلية جديدة، وبناء اقتصاد لامركزي يقوم على بنية لامركزية تستند لإطلاق عملية الازدهار بدأ من القاعدة الاقتصادية، وأخيراً التحضير لعقد مؤتمر وطني سوري عام وجامع تأسيساً لبداية مرحلة تاريخية جديدة لكل السوريين.
يلاحظ الكاتب والباحث السوري شورش درويش، المشارك في اللقاء، أن السوريين "بدأوا يفقدون المهل التي منحهم إياها المجتمع الدولي، وبدأوا يفقدون فكرة التعويل على أن هذه السلطة انتقالية. بالتالي، على التعبيرات السياسية والاجتماعية السورية أداء أدوار داخلية للذهاب باتجاه ضمان العدالة الانتقالية، وكتابة إعلان دستوري جديد، وشرح معاني المرحلة الانتقالية". ويضيف درويش في حديث لـ "النهار" أن السوريين يفكرون اليوم كيف يمكن صون الوحدة الوطنية بعد هذا التفكك الكبير، وكيف يمكن إنقاذ الاقتصاد السوري، ومعالجة الملفات العالقة؟ ففي العام الماضي لم نشهد إلا الكثير من الوعود والكثير من النقاشات الضبابية التي أطلقتها السلطة، والكثير من الأزمات الداخلية في السويداء والساحل، إضافة إلى الاشتباكات في شمال شرق سوريا، "لا ننسى التغييرات الديموغرافية الجارية في سوريا، وهذه كلها تخيف السوريين، والمراقبين الغربيين، ما سيدفع باتجاه الدعوة إلى عقد اجتماعي جديد بكتابة إعلان دستوري جديد في مؤتمر وطني عام يجمع كل السوريين".
نبض