سوريا والتحالف الدولي: نفوذ واشنطن قبل مصالح دمشق
إبراهيم مراد*
ما كان استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، للرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، حدثاً عابراً على الصعيدين السياسي والديبلوماسي، سواءً إقليماً أو دولياً. فالإعلام السوري التابع للسلطة الحالية، والإعلام العربي بشكل عام، أفردا مساحة كبيرة لهذا اللقاء، ووصفاه بالتاريخي لجهة أن الشرع هو أول رئيس سوري يزور الولايات المتحدة منذ أكثر من خمسة عقود، ولأن الزيارة تأتي في ظروف استثنائية تمرّ بها المنطقة برمتها، لا سوريا وحدها.
في المقابل، تناول الإعلام الأميركي هذا الحدث من زاوية مختلفة، وركّز بشكل أساسٍ على ما قد تحمله الزيارة من أهمية على صعيد تثبيت الأمن والاستقرار في المنطقة.
وقبل أي إعلان رسميّ عن فحوى لقاء ترامب – الشرع، شاعت تسريبات أفادت أنه تمحور حول نقطتين رئيسيتين: الأولى، انضمام دمشق إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" بهدف تعزيز الأمن الإقليمي؛ والثانية، عملية "التطبيع" بين سوريا وإسرائيل، التي تقول بعض المصادر إن الطرفين قطعا شوطاً طويلاً في إنجازها، خلال سلسلة من الاجتماعات المتواصلة بين الطرفين، خلف أبواب مغلقة.
عموماً، خلا الإعلان الرسمي السوري عن طبيعة اللقاء المذكور وحيثياته من أي إشارة إلى النقطة الثانية، وعما إذا كان قد تطرق إليها الجانبان فعلاً. لكن، في ما يتعلق بالانضمام إلى المعركة ضد "داعش"، صرّحت السلطات السورية بأنها وقّعت على "إعلان تعاون سياسي" مع التحالف الدولي، بينما أعلنت السفارة الأميركية في دمشق أن سوريا باتت العضو التسعين في التحالف. ويكشف هذا التباين في التصريحات عن اختلاف جوهري في طبيعة العلاقة، وتضارب في الرؤى حول آفاق التعاون. بناءً عليه، تفرض جملة التساؤلات التالية نفسها بإلحاح: ما الفرق بين هذين المستويين من التعاون؟ وكيف يمكن قراءة الموقف السوري من الانضمام للتحالف الدولي؟ ومَن هي الأطراف المستفيدة من هذه الخطوة؟

وفقاً لدمشق، يقتصر التعاون السياسي على محاربة التنظيم الإرهابي على الصعيدين الإعلامي والاستخباري، من خلال تبادل المعلومات وتقديم الإحداثيات الخاصة بعناصر "داعش". أما الانضمام العسكري، كما أعلنته السفارة الأميركية، فيعني المشاركة الفعلية في العمليات القتالية ضد التنظيم داخل الأراضي السورية كافة، والسماح بإنشاء قواعد للتحالف والولايات المتحدة في الداخل السوري.
على هذا النحو، ظهر تفسيران مختلفان لطبيعة التعاون المزمع بين دمشق والتحالف الدولي: أعطته واشنطن البُعد القتالي العملياتي المباشر، فيما لجأت السلطات الانتقالية إلى ما يمكن تسميته "المواربة" والضبابية في تفسيرها آليات هذا التعاون وآفاقه.
إن الميل السوري إلى الحذر والتوجّس مفهوم. فدمشق تدرك حساسية الانخراط الفعلي في هذا الجهد ومخاطره، كما تعرف حقّ المعرفة عواقب المواجهة المباشرة مع الجماعات الإسلامية الراديكالية. فالحكومة الحالية، ممثّلة بـ "هيئة تحرير الشام"، تتحدّر هي نفسها من بيئة إسلامية راديكالية، ورغم بعض التحوّل الظاهر في أدائها وتوجهاتها، ما زالت تضمّ جماعات وتكتلات إسلامية متشدّدة ضمن أطرها وهياكلها كلها. وبالتالي، تبقى قراراتها السياسية رهينة التوازنات الدقيقة بين رغبتها في التقارب مع الغرب وكسبّ ودّه، وسعيها إلى إرضاء فصائل إسلامية تشكّل قاعدة نفوذها ونواتها الصلبة.
إن المعضلة "الشامية" هذه توضح جلياً حجم العائق الجوهري الذي تمثله الحالة الفصائلية في سوريا أمام اتخاذ خطوات استراتيجية كهذه، إن لم تتوحّد تحت مظلة "جيش سوري انتقالي"، خصوصاً أن العديد منها يتبع حتى الساعة أجندات الأطراف والجهات الداعمة لها، في داخل سوريا وفي خارجها. اليوم، ثمة جماعات انضمّت رسمياً إلى الجيش السوري الجديد، فيما بقيت أخرى – تضمّ مقاتلين أجانب وفرنسيين وغيرهم –خارجه، مع الحفاظ على حدّ أدنى من التعاون والتنسيق بين الطرفين. وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من سبعة آلاف مقاتل سابق في صفوف "هيئة تحرير الشام" ما زالوا خارج إطار الجيش السوري الانتقالي، ما يجعل البلاد تعيش حالة من التناقض البنيوي بين السعي إلى الاعتراف الدولي ومحاولات التحرّر من سطوة الجماعات الإسلامية.
منذ اندلاع النزاع السوري في عام 2011، تدفّق آلاف المقاتلين الأجانب إلى البلاد، وشكّل بعضهم فصائل لمقاتلة نظام الأسد، في حين التحق آخرون بتنظيم "داعش" بين عامي 2014 و2019. عُرفت هذه الفصائل بانضباطها القتالي، وولائها الشديد لقادتها. لا إحصاءات دقيقة لأعداد المقاتلين الأجانب، إلا أن أعدادهم تراجعت لأسباب مختلفة، كانتقالهم مثلاً إلى بؤر نزاع أخرى، فإحصاءات أخيرة تشير إلى أن عددهم يتراوح بين 5 و7 آلاف مقاتل.
ورغم أن الإعلان عن اتفاق التعاون جاء في إطار ديبلوماسي طبيعي، فإن توقيته وصيغته عكسا توجهاً جديداً في مقاربة كل طرف للآخر. فالسلطة الانتقالية تسعى إلى كسب اعتراف سياسي دولي، بينما يسعى التحالف الدولي بقيادة واشنطن إلى إدماج الحكومة الجديدة ضمن منظومة التعاون الأمني الإقليمي لتعزيز نفوذه في الساحة السورية على حساب الفاعلين الإقليميين الآخرين. ويُقرأ هذا التطور بوصفه خطوة تمهيدية نحو شراكة أوسع، أكثر من كونه اتفاقاً نهائياً، إذ يهدف التحالف إلى بناء الثقة قبل الانتقال إلى التعاون العسكري، بينما ترى حكومة دمشق في التعاون السياسي وسيلة لكسب الشرعية الدولية من دون اصطدام بفصائلها الإسلامية.
تواجه السلطات السورية الانتقالية تحديات داخلية متعددة تحول دون انخراطها العسكري المباشر في التحالف. بنيوياً، تضمّ الحكومة الانتقالية شخصيات انتمت سابقاً إلى فصائل إسلامية، كما أن بعض المقاتلين الأجانب الذين حاربوا إلى جانب "هيئة تحرير الشام" ما زالوا على الأراضي السورية، وبعضهم على ارتباط غير رسمي بالسلطة الحالية. هذا الواقع يجعل أي التزام عسكري ضد التنظيمات الجهادية مغامرة ربما تؤدي إلى انقسامات داخلية أو صدام مع القواعد الشعبية ذات المرجعية الدينية.

وكشفت مشاورات الحكومة الانتقالية مع عدد من المشايخ الإسلاميين قبل التوقيع، والتي أثنى عليها الشيخ السلفي الجهادي عبد الله المحيسني، أن القرار السياسي في دمشق لا يزال خاضعاً لتوازنات فكرية ودينية دقيقة، ولفتاوى ومقاربات شرعية، وهذا يفسّر تردّدها في المضي قدماً نحو التعاون مع التحالف الدولي.
في ميزان المصالح، يحقق هذا الاتفاق مكاسب متفاوتة للأطراف الثلاثة الرئيسة: حكومة دمشق الانتقالية، التحالف الدولي لمحاربة "داعش" بقيادة الولايات المتحدة، و"قوات سوريا الديموقراطية" (قسد). فبالنسبة إلى الحكومة الانتقالية، يقرّبها الاتفاق خطوة أخرى من الشرعية الدولية، ويمنحها غطاءً ديبلوماسياً يخفف من عزلتها، كما يتيح لها التنسيق الاستخباري مع التحالف لضبط الجماعات المتشددة ضمن بنيتها من دون الظهور في موقع المواجهة المباشرة معها. وبالنسبة إلى التحالف الدولي، يعزّز هذا الاتفاق نفوذ واشنطن السياسي والعسكري داخل سوريا، ويوفّر لها أداة لإعادة هندسة العلاقات بين القوى المحلية ضمن استراتيجية "إدارة النفوذ من الداخل"، من دون تورّط ميداني مباشر.
وتبقى "قسد" المستفيد الصامت من الاتفاق، إذ يهيئ لها إطاراً ملائماً لتنسيق أمني - سياسي مع الحكومة الانتقالية، تحت إشراف أميركي، وهذا قد يمهّد لإعادة هيكلة العلاقة بين الطرفين في الشمال والشرق السوريين، وربما التوصل إلى تفاهمات مرحلية تمهّد لدمج جزئي لـ"قسد" في أجهزة الدولة مستقبلاً.
إقليمياً، يُتوقع أن يساهم الاتفاق في ترسيخ الوجود الأميركي طويلاً في سوريا. فالتعاون مع سلطة انتقالية معترف بها يمنح واشنطن غطاءً قانونياً لتوسيع قواعدها ومناطق نفوذها، ويحدّ من قدرة روسيا وإيران على استثمار أي فراغ سياسي أو أمني. ومن شأن هذا الاتفاق أيضاً إعادة ترتيب التوازنات الداخلية بما يخدم الاستراتيجية الأميركية الهادفة إلى منع تشكّل محور روسي – إيراني مضاد. أما دولياً، فهذا الاتفاق يُحيي التحالف الدولي الذي تراجع دوره كثيراً في السنوات الأخيرة، بمنحه شرعية سياسية جديدة وعمقاً ديبلوماسياً يسمح له بالتحرك في داخل سوريا بحرية أكبر.
عليه، يكون هذا الاتفاق خطوة تكتيكية متبادلة المنفعة أكثر من كونه تحولاً استراتيجياً. فالسلطة الانتقالية تحتاج إلى المزيد من الوقت لبناء مؤسساتها وإضعاف نفوذ الأجنحة الإسلامية، بينما تستخدم واشنطن الاتفاق أداة لاحتواء السلطة وتوجيهها سياسياً وأمنياً. ومرجحٌ أن يتطور التعاون السياسي في المدى المتوسط إلى تنسيق أمني موسع، يشمل تبادل المعلومات، وربما عمليات محدودة ضد الخلايا الجهادية، تمهيداً لشراكة أعمق لاحقاً.
في ختام زيارة الشرع إلى واشنطن، أدرج بيان وزارة الخارجية السورية تنفيذ اتفاق 10 آذار/مارس ضمن أجندة المحادثات مع الجانب الأميركي. غير أن هذا البيان استخدم لغة أحادية ركّزت على مطلب تفكيك "قسد"، فيما تؤكد المعطيات أن دمشق تتحمل تكلفة سياسية كبيرة إذا تعثّر تنفيذ الاتفاق، خصوصاً مع استمرار "قسد" في إطلاع التحالف والجانب الأميركي على تفاصيل المفاوضات بشكل دوري.
وبحسب تقرير نشرته "واشنطن بوست"، ترى الولايات المتحدة في دعم الشرع مصلحة استراتيجية، فربما يمهّد ذلك لاحقاً لسحب قواتها المتمركزة من سوريا، علماً أن انضمام دمشق رسمياً إلى التحالف يبقى مشروطاً بالتوصل إلى اتفاق نهائي مع "قسد"، يضمن اندماجاً متبادلاً، لا أحادي الجانب، رغم محدودية قدرات الجيش السوري الانتقالي، انضباطاً وتنظيماً، .إذ يصفه "مركز صوفان للدراسات" بأنه أقرب إلى "هيكل ميليشياوي"، ووجود فصائل متشددة ضمنه يعرقل تنفيذ التزامات دمشق مع التحالف. إلى ذلك، بطء المحادثات بين دمشق و"قسد" يعقّد فرص إدماج الحكومة الانتقالية ضمن التحالف بشكل فعلي.
لا يقتصر الدور الأميركي في سوريا على الوساطة، إنما يتجاوزها إلى الإشراف المباشر على إعادة بناء الهيكل الأمني السوري، في مسعى لتوحيد البلاد عسكرياً ضمن منظومة توازنات ترعاها واشنطن، مع ضمان درجة من اللامركزية لـ"قسد". وبذلك، تحاول واشنطن تحويل وجودها العسكري إلى نفوذ مؤسسي طويل الأمد بدمج حلفائها في البنية الرسمية للدولة السورية. لكن، يبقى السؤال الجوهري: هل يساهم التعاون بين دمشق والتحالف الدولي ضد "داعش" في تحقيق توازن مستقر داخل سوريا، أم يُعمّق الانقسامات الداخلية نتيجة تناقضات تواجهها السلطة الانتقالية؟ وحتى الآن، لم يُحدث الاتفاق تغييراً ميدانياً ملموساً، لكنه أعاد رسم الاصطفافات السياسية، وفتح الباب أمام إعادة هيكلة تدريجية للنفوذ الدولي في الداخل السوري.
وفي الختام، لا يمثل اتفاق التعاون السياسي بين السلطات السورية الانتقالية والتحالف الدولي تحولاً جذرياً في ميزان القوى بالميدان السوري، بقدر ما يجسّد تحولاً في الأدوات والنهج: من المواجهة المباشرة إلى الاحتواء التدريجي. إنه بداية مسار طويل من إعادة التموضع المتبادل، تسعى فيه السلطة الانتقالية إلى ترسيخ استقلالها عن الإرث الإسلامي السابق، بينما تعمل واشنطن على تعزيز نفوذها داخل البنية الجديدة للدولة السورية. وفي ظل استمرار التعقيدات الإقليمية والدولية، يبقى هذا التعاون اختباراً حاسماً لقدرة دمشق على تحويل التقارب السياسي إلى شراكة عملية، تُفضي أخيراً إلى استقرار حقيقي.
*صحافي وكاتب سياسي سوري
نبض