الانتخابات العراقية وإعادة التموضع الأميركي - الإيراني
لم تعد الانتخابات ونتائجها شأناً عراقياً، فمنذ الدورة البرلمانية الثانية في عام 2010، وفي ضوء التدافع بين الولايات المتحدة وإيران، خضعت الحياة السياسية لما يُعرف بمعادلة "توافق الأضداد"، فانعكس هذا التفاهم المباشر أو غير المباشر بينهما على شكل السلطة التنفيذية، وفتح الباب لاحقاً لتعيين رؤساء وزراء وتشكيل حكومات تعمل قدر المستطاع على موازنة المصالح بين واشنطن وطهران.
فالعاصمتان الفاعلتان بالقرار في بغداد كانتا مقتنعتين بتقاسم النفوذ في العراق، إلا أن تداعيات أكتوبر 2023، بما فيها الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، وعودة دونالد ترمب إلى البيت الابيض حاملاً قرار إنهاء نفوذ إيران وأذرعها المسلحة بهدف رسم الشرق الاوسط الجديد ما دفعه إلى الاستدارة نحو العراق لشموله بترتيبات يجريها في المنطقة من جهة وإعادة انتزاعه من السيطرة الايرانية، فرضت واقعاً سياسياً مغايراً على المشهد الانتخابي لعام 2025، وعلى إيران وحلفائها.
إيران الخاسرة لمشروعها الاقليمي في لبنان وسوريا بدت أشد قلقاً على وجودها في العراق، لا على المستوى الأمني المتزامن مع ارتفاع مؤشرات استهداف المليشيات الموالية لها من واشنطن أو تل أبيب بعد التصريحات الإسرائيلية بأن "طهران تعمل على تحويل نفوذها العسكري إلى العراق" فحسب، بل بامتداد القلق من إمكانية خسارتها معقل نفوذها السياسي الأخير في بغداد التي تعد ركيزة أمنها القومي، ما دفعها إلى النظر للانتخابات الحالية على أنها "مسألة وجودية" من جهة، ولإثبات استمرار قوتها وقدرتها على اللعب بالأوراق والجغرافيات أمام الأميركي العائد بقوة إلى المنطقة والعراق من جهة أخرى.
لذا، ستكون طهران مضطرّة لإعادة تموضعها استعداداً للتعامل مع المرحلة المقبلة التي قد تشهد إعادة رسم التوازنات داخلياً من خلال ضبط المسار الانتخابي لـ"الإطار التنسيقي"، والتكيّف على مستوى رسم شكل التحالفات الشيعية قبل الانتخابات وما بعدها، والانخراط الصامت برسم شكل المعادلة السياسية القادمة "شيعياً وسنياً وكردياً"، وتحديد اسم رئيس الوزراء المقبل، بالشكل الذي لا يستفز الولايات المتحدة، بتقديم شخصية تبدو أكثر تفاهماً مع اشتراطات طاقم ترامب. لكنها، في الوقت ذاته، ستؤمّن الحد المتوسط من نفوذها ومصالحها وسلاحها في العراق.
تبدو إدارة ترامب أكثر اطمئناناً تجاه انتخابات البرلمان العراقي في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، لا على أساس أنها بذلت جهداً ديبلوماسياً لهندسة التحالفات، بل لأنها ستكون واضعة بصمتها في شكل الحكومة ورئيسها. فالضغوط التي مارستها من خلال معاقبة كيانات وشخصيات وواجهات اقتصادية تابعة لإيران، وكذلك الاشتراطات التي أبلغت بها الفاعلين الشيعة والمحصورة بـ"إنهاء النفوذ الإيراني على مؤسسات الدولة، ونزع سلاح الفصائل المسلحة، وفك الارتباط الاقتصادي مع طهران"، ستكون معياراً لقياس انسجامهم مع مقاربة البيت الابيض وقدرتهم على إعادة تعريف علاقتهم بإيران، بشكل يضمن لواشنطن "إعادة دمج العراق بالكامل في المسار الأميركي".
لذا، اختيار توقيت هذه الرسائل قبل الانتخابات ليس عابراً، بل يهدف إلى التأثير في شكل التحالفات المقبلة، والتعامل حصرياً مع القوى القادرة على تنفيذ الرؤية الأميركية، ما يشير إلى أن واشنطن تتحرك وفق استراتيجية مختلفة عمّا اعتاده العراقيون في الانتخابات الماضية، خصوصاً أنها قادرة على تحقيق ذلك لأنها لا تزال تملك أدوات ضغط واسعة، بالاستمرار بالعقوبات والتصنيفات الإرهابية التي تطال الميليشيات، وما يترتب عليها من التزامات قانونية على الدولة العراقية، قد تصل إلى عدم الاعتراف بأي حكومة تشكلها أطراف مرتبطة بإيران، أو مدرجة على لوائح الإرهاب، مع عدم استبعاد تنفيذ عمليات استهداف تطال الممانعين. لذا، لا تبدو الإدارة الأميركية الحالية معنية بسياسة الاحتواء أو الموازنة، بل تتّجه إلى فرض معادلة "القبول بشروطها أو العزلة"، على غرار ما تطرحه في الملف اللبناني تجاه سلاح "حزب الله".
نبض