كيف تحكّمت "القوة الناعمة" و"فيفا" في مسار تصفيات مونديال 2026؟

لم تعد كرة القدم مجرّد لعبة رياضية، وهذا الأمر تجلى منذ سنوات بعيدة بعدما باتت أمم ودول تسعى إلى كسب ودّ "الساحرة المستديرة"، وبالتالي فإنّ الاتحاد الدولي "فيفا" والاتحادات القارية لم تعد تبني قراراتها على جودة اللعب أو "البقاء للأقوى" فحسب، بل أصبح للمال والتسويق والإعلام نفوذ كبير على مجريات الأحداث.
شهدت تصفيات مونديال 2026 تحوّلات في مختلف القارات، أسماء جديدة وضعت نفسها على خريطة كأس العالم مثل الرأس الأخضر أو كاليدونيا الجديدة وكوراساو وجزر فارو، كلها أسماء كانت بالكاد تُذكر، إلا أنها باتت تضاهي كبار الساحة مثل البرازيل وألمانيا وإيطاليا، وقارة آسيا مثال حيّ على هذا الواقع، حيث يظهر جلياً كيف يمكن للنفوذ الاقتصادي والإعلامي أن يمنح بعض المنتخبات أفضلية غير مباشرة على حساب أخرى، مهما كان تاريخها الكروي عريقاً.
الملحق الآسيوي للتصفيات، الذي يضمّ مجموعتين تتنافسان على بطاقات الملحق العالمي، أثار جدلاً واسعاً. يسمح النظام الجديد للمتصدرين بالتأهل مباشرة، بينما يلعب الوصيفون مواجهات فاصلة لتحديد من سيذهب إلى الملحق العالمي مع منتخبات من قارات أخرى. هذا التصميم، الذي بدا للبعض عبقرياً وساخراً في الوقت نفسه، أوجد فجوات كبيرة في تكافؤ الفرص.
وانتقد المدرب البرتغالي لمنتخب عمان كارلوس كيروش النظام قائلاً: "لم أر شيئاً كهذا في 40 سنة. الظروف غير عادلة، هناك منتخب يحصل على 72 ساعة راحة وآخر على 6 أيام، وهذا يؤثر على اللاعبين والمدرّبين والجماهير". تصريح كيروش يوضح كيف أنّ انعدام تكافؤ الفرص أصبح سمة واضحة في هذه التصفيات.
وفي خلفية هذا النظام، تظهر استراتيجية "فيفا" الواضحة: التركيز على القيمة السوقية للمنتخبات. حقوق البث التلفزيوني والرعاية التجارية تشكل أكثر من 80% من عائدات "فيفا". منتخبات مثل السعودية وقطر لا تجلب فقط جماهير كبيرة، بل تمتلك أيضاً بنية تحتية إعلامية ومالية تجعل من كل مباراة حدثاً مربحاً. السعودية في دوري روشن واستقطاب نجوم عالميين، وقطر عبر درّة النقل التلفزيوني "بي إن سبورتس" وكأس العالم 2022، أظهرتا كيف يمكن للمال والنفوذ الإعلامي أن يضعا المنتخبات في دائرة الضوء، بينما تبقى منتخبات مثل العراق خارج هذا الحساب التجاري، رغم تاريخها العريق وشغف جماهيرها الواسع.
ويضمن "فيفا"، من منظوره، استمرار وجود المنتخبات الجماهيرية والمالية الكبيرة أطول فترة ممكنة، لا كسيطرة مباشرة، بل كاستثمار اقتصادي واستراتيجي طويل الأمد.
في هذا السياق، يبرز منتخب العراق حالة خاصة. المنتخب العراقي يمتلك شغفاً جماهيرياً هائلاً وتاريخاً رياضياً يسبق العديد من جيرانه، بما في ذلك بلوغه نهائيات كأس العالم قبل عقود، وإنجازاته القارية في كأس آسيا 2007. لكن هذا التاريخ العظيم لم يمنحه الأفضلية في سباق التصفيات الحديثة. ويرى نجوم سابقون أنّ العقلية الإدارية داخل الاتحاد العراقي، والتخطيط المحدود، وضعف البنية التحتية الاحترافية، جعلت المنتخب أقل قدرة على المنافسة في ظل نظام يعتمد على الاحترافية والتنظيم والموارد المالية. وصف الحارس السابق نور صبري الجيل الحالي بأنه الأضعف منذ عقود، وهو تقييم يعكس حقيقة أنّ الشغف وحده لا يكفي لمواكبة متطلبات كرة القدم الحديثة.
وتتأثر كرة القدم الحديثة بشدة بالقوة الناعمة والمال والإعلام، ويصبح أداء المنتخبات أقل ارتباطاً بالموهبة وحدها، وأكثر ارتباطاً بالقدرة على إدارة الموارد، واستغلال النفوذ، والبناء الاحترافي للمنتخبات. ومن جهة أخرى، فإنّ فريق "أسود الرافدين"، رغم شغفه الجماهيري وإمكانياته الكروية، أقصى نفسه جزئياً بسبب الإدارة الداخلية، وتالياً النتائج المتواضعة في التصفيات المنتظمة، فالتاريخ لا يكفي إن لم يرافقه تنظيم واستثمار في اللاعبين والبنية التحتية. فالتصفيات باتت مزيجاً معقداً من السياسة، المال، الإعلام، والرياضة. المنتخبات الجماهيرية والمالية الكبيرة تحتل مركز الصدارة، بينما المنتخبات ذات الشغف العريق لكنها محدودة الموارد تظل تكافح للحفاظ على موقعها، ما يوضح أنّ كرة القدم الحديثة أصبحت ساحة تتقاطع فيها الرياضة مع القوة الناعمة والاقتصاد العالمي، حيث يصبح النجاح محكوماً بما تملكه الدولة من موارد لا فقط بمهارة لاعبيها.