الملعب الأيقوني "سان سيرو"... موت الجسد وبقاء الروح
 
                                    كانت عقارب الساعة تقترب من الرابعة فجراً عندما أضاءت قاعة "بالاتسو مارينو" في ميلانو لحظةً تاريخية. تصويت مجلس البلدية على بيع ملعب سان سيرو إلى قطبي المدينة، اي سي ميلان وإنتر ميلان بدا كأنّه إعلان بداية النهاية لأكثر الملاعب الإيطالية رمزية. لحظة حملت بين جدرانها مزيجاً من الدموع والفخر، بين وداع الماضي والاستعداد لاستشراف مستقبل جديد.
لا يُعدّ سان سيرو مجرّد ملعب، بل هو موطن لأحلام أجيال. جدرانه شهدت بطولات أوروبا العشر التي حملها العملاقان، وعلى ملاحم الكالتشيو أيام "الكاتيناتشيو"، وعلى ليالٍ أضاءتها الألعاب النارية والدموع معاً. من فرانكو باريزي إلى باولو مالديني، ومن خافيير زانيتي إلى دييغو ميليتو، من أريغو ساكي بثورته التكتيكية إلى جوزيه مورينيو وثلاثيته التاريخية، ظل هذا الملعب قلباً نابضاً لكرة القدم الأوروبية.
لكن، كما قال باولو مالديني عام 2020: "اللعب في سان سيرو تجربة استثنائية، لكنه أصبح متقادماً ولا يليق بطموحات ميلان وإنتر".
فرض الواقع نفسه بقسوة، إذ أقدم الاتحاد الأوروبي "يويفا" على تجريد الملعب من استضافة نهائي دوري الأبطال 2027 بحجة أنه لم يعد يلبي المعايير. رئيس الاتحاد القاري ألكسندر تشيفيرين صرّح بوضوح: "بنيتكم التحتية سيئة للغاية. يجب على الحكومة والبلديات التحرّك فوراً".

وبينما جدّد ملعب سانتياغو برنابيو ليحقق لريال مدريد دخلاً سنوياً يبلغ 362 مليون يورو، بقي سان سيرو عاجزاً عن تحقيق ربع هذا الرقم. اقتصاد كرة القدم لم يعد يحتمل ملعباً يعيش على المجد وحده. فبقرار بيع قيمته 197 مليون يورو، سينطلق مشروع بناء ملعب جديد يتّسع لـ71.500 متفرج بتمويل مشترك من ميلان وإنتر، وبكلفة إجمالية تصل إلى 1.2 مليار يورو.
المشروع الجديد أشبه بمدينة رياضية وتجارية متكاملة: مدرّجات حديثة حادّة الانحدار لضمان رؤية مثالية، مساحات خضراء، مرافق تجارية، متحف للذاكرة. وسيُدمج جزء من الحلقة الثانية التاريخية في التصميم الجديد، كتذكار باقٍ وسط الحداثة.
رئيس إنتر، بيبي ماروتا، لخّص الموقف قائلاً: "سان سيرو رمز تاريخيّ، لكن لا بدّ من المضي قدماً. مثلما هُدم ويمبلي وأُعيد بناؤه، علينا فعل الشيء ذاته".
وأكد جيري كاردينالي، مالك ميلان، أنّ "الملعب الجديد ليس مجرّد بناء، بل استثمار لضمان أن تبقى ميلانو في قلب كرة القدم العالمية. التنافس سيبقى في الملعب، أما خارجه فالتعاون سر النجاح".
ومع ذلك، لم تختف أصوات المعارضة، إذ ترى جمعيات مشجعين وناشطون في هدم سان سيرو "جريمة ضد التراث". طالب البعض بتحويله إلى مركز للفعاليات أو إلى متحف ضخم بدلاً من محوه. لكن البلدية فضّلت الخيار الاقتصادي الواقعي، معتبرة أنّ صيانة الملعب المتهالك لم تعد مجدية.
الحقيقة أنّ إرث سان سيرو لن يُمحى كلياً. صورته الأيقونية ستغيب، لكن روحه ستبقى حاضرة. سيظل اسمه "جوسيبي مياتزا" مرتبطاً بالمكان، وسيروي المتحف المرافق قصص الأمجاد التي شهدها. بقايا الخرسانة والأعمدة ستقف في الساحات كأثر رمزي، شاهدة على قرن من المجد. مثلما رحل ويمبلي القديم وبقيت روحه حيّة في لندن، سيرحل سان سيرو كـ"جسد"، ليبقى كـ"روح" ملهمة.
ميلانو تستعد لولادة ملعب جديد بحلول 2032، لكنّ ميلانو أيضاً تستعد لوداع بطيء ومؤلم لأيقونتها الكروية. حين يدخل آخر مشجع عبر الأنفاق الحلزونية الحمراء، ويجلس على مدرجاته الصاخبة، سيدرك أنّ هذه هي لحظة النهاية. النهاية التي تحمل في طياتها بداية، مثل شمس تغيب لتشرق من جديد، ومع كل ذلك ستبقى ذكريات سان سيرو جزءاً من هوية ميلانو وكرة القدم الإيطالية إلى الأبد.
 
     
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             نبض
                                                                        نبض
                                                                     
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                