رحيل الفنان محمد عزيزة: فارس اللون وأيقونة طرابلس التشكيلية
لوحة (محمد عزيزة)
Smaller Bigger

فيصل سلطان


خسرت الحياة الفنية اللبنانية صباح السبت، في التاسع عشر من تموز، الفنان محمد عزيزة (1949–2025)، في محترفه بمدينة طرابلس، حيث أسلم روحه بعد أن أودع في لوحته الأخيرة لمسات الضوء التي شكّلت فضاءً لصورة شعرية مغمورة باللون. رحل وهو يتأمل إيقاعات النور المتوهّج في مخيلة بصيرته، مؤمنًا بأن لا وجود للمرئي خارج الحواس. كان غزير الإنتاج، يأخذنا دومًا بهدوء وصمت إلى فتنة محترفه، لندخل عوالمه ونستكشف سرّ ألوانه التي تنساب في فيض من رهافة التعبير، وتنبجس في تلقائية ارتجالية تعبّر عن حبه العميق لتجسيد الهويات المتقاطعة في رسم المشهد، متتبّعًا حركات المناخ، ومسارات الضوء في المدينة، وعلى الشاطئ، وفي أعالي الجبل. 

 

بعد تخرّجه من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية العام 1972، لم ينقطع محمد عزيزة عن الرسم يومًا طوال مسيرته الفنية. كان شديد الإيمان بأن ما تختزنه ذاكرة الفنون التشكيلية اللبنانية والعربية من قيم واتجاهات ومدارس، يشكّل زادًا ينهل منه في مسيرته نحو تحقيق فرادته وتميّزه. شارك في تأسيس تجمع "الفنانين العشرة" في طرابلس العام 1974، وأسهم في جميع معارضه التي أقيمت في لبنان وفي عدد من العواصم العربية والأجنبية، مؤمنًا بأن الفن فعلٌ تراكمي يتغذّى من التجربة والانتماء والبحث المستمر.
كان يرسم في عزلة محترفه كما لو أنه يتنفّس، منكبًا على اكتشاف ملامح أسلوبه ومواضيعه، وما تنطوي عليه من رموز وألوان ومضامين إنسانية. انتقى مفرداته التشكيلية بعناية، ونسج فيما بينها خيوطًا تجمع بين الواقعي والتجريدي، ليشير من خلالها إلى دلالات رمزية ومناخات شعرية. وغالبًا ما استقى هذه المفردات من أجواء مدينة طرابلس التي عاش في كنفها، فرسم أسواقها، وشرفات بيوتها التراثية المفتوحة على الحدائق والأشجار، كما رسم بحرها وميناءها ومراكب صياديها، مستلهمًا منها روحًا حضارية لا تنضب.

 

الفنان محمد عزيزة بريشته (محمد عزيزة)
الفنان محمد عزيزة بريشته (محمد عزيزة)

 

مرّت تجارب محمد عزيزة بمحطات وموضوعات شتّى، من أبرزها مرحلة رسم الطبيعة الصامتة لباقات الزهور، في عقد الثمانينيات، حيث تكشّفت أولى إيقاعات لمساته الانفعالية الارتجالية، ومداها اللوني المرهف، الذي يتسلّل بحساسية هامسة بين أجزاء تأليف اللوحة. وفي تلك الأعمال، تجلّت اللمسة الارتجالية بأبهى صورها، لا سيّما في تجسيد الجوّ الدرامي الذي أدخله على نسيج لوحاته، للتعبير عن أهوال الحروب وعواصفها. كثيرًا ما كان يُخرج باقات الزهور من حدودها المألوفة في الشكل واللون، ليصوغها بتأليف بصري جديد، يعتمد على تأطير المساحات اللونية كما لو كانت حقبًا زمنية مرئية. وفي مطلع الألفية الثالثة، وقف على مشارف تجربتين جديدتين، استجمع فيهما كامل مفرداته التشكيلية، في مرحلة "مناظر من مدينة طرابلس"، حيث أعاد توزيع تلك المفردات ضمن رؤًى تجمع بين إشارات الواقع، وقوة الحركة اللونية الارتجالية، وتبسيط التجريد. تتقاسم لوحاته في هذه المرحلة نماذج من أحياء المدينة القديمة، يجمعها في نقاط مركزية، ليأخذنا منها إلى رحابة المشهد الريفي-المديني، وإلى وطأة وعيٍ تأملي متحرر، منفتح على رؤى متعدّدة، أقرب ما تكون إلى الذكريات.

 

ذاعت شهرة محمد عزيزة كرسّام بورتريه بعد فوزه، عام 1975، بجائزة رسم الوجوه التي نظّمتها وزارة التربية والفنون الجميلة في بيروت. لم يكن ذلك الفوز حدثًا عابرًا، بل شكّل إعلانًا مبكرًا عن موهبة تتقدّم بثبات نحو فرادتها، متسلّحة بوعي بصري عميق وقدرة استثنائية على التقاط تعبيرات الوجه وتحوّلاته. في أعماله، جمع بين واقعية التقاط الملامح وقوة التعبير الداخلي، بعد أن تمرّس طويلًا على رسم الوجوه والمناظر، مستفيدًا من معجم التجريد الغنائي الذي استقاه من تأثيرات "مدرسة باريس"، حيث الشكل لا يُعاد إنتاجه كما هو، بل يُعاد تأويله بلغة لونية مشحونة بالإحساس والانفعال.

 

لوحة (محمد عزيزة)
لوحة (محمد عزيزة)

 

كان عزيزة يؤمن بأن الفن ليس مرآة للواقع، بل نافذة على رؤيته العميقة: فعل تأويلي يحوّل المرئي إلى لحظة شعرية، تتجلّى فيها ضربات الريشة، عبر لطخات لونية ارتجالية تُجسّد الرؤى والمشاعر في آنٍ واحد، وتمنح اللوحة بعدها التعبيري الحي. على هذا الأساس، خاض تجاربه المتنوعة، ساعيًا إلى خلق تواصل درامي (كما في لوحاته التي تناولت انفجار مرفأ بيروت)، أو بعد أسطوري (كما في عواصف البحار وأمواجها الهائجة)، أو شاعرية رومانسية (في فضاءات الوديان وهضاب الجبل اللبناني).

 

كان هدفه الدائم أن يمنح العالم المرئي معاني أعمق، تتّسع لحرية الخيال ورهافة الخطاب الشعري، ضمن ثراء لوني لا يضاهيه سوى تلك اللمسات الارتجالية التي تبدو لاعبة وحاسمة في الوقت نفسه، كأنها ترسم بخفّة وجرأة ذلك المسار الخيالي المجهول، المنبثق من خميرة المغامرة والإلهام. هكذا تحوّل فعل الرسم اليومي، في أعمال محمد عزيزة، إلى سلسلة لا تنتهي من الاكتشافات؛ كل لوحة تُفضي إلى أخرى، كما لو أنه كان في رحلة دائمة، ينهل من التجربة كي يولّد أخرى، ومن التأمل كي يُشعل رؤى جديدة.

 

في لوحاته الأخيرة، بدا كأنه يحدثنا عن الحرية بقدر ما يحدثنا عن النظام، عن الفوضى الكونية التي تستبطن شكلاً من أشكال التناسق الداخلي، المستتر في طبقات اللون والرمز. تجلّى هذا الحس في مشاركته البارزة بمعرض اليوبيل الذهبي لتجمّع "الفنانين العشرة"، الذي أقيم عام 2024 في متحف نابو، حيث كشفت أعماله الأخيرة عن نزعة إلى الديمومة "السيزيفية" في معايشة صدمات الحروب وكوارث الهجرة، بأسلوب ينزع إلى الخيال والتأويل. ظهرت المدن في تلك اللوحات كأنها كيانات هاربة، عائمة في فضاء بلا زمن، تعيش بين الانمحاء والرجاء، بينما تمضي الريشة في سحبها من الغياب، وإعادتها إلى ما يشبه الوجود ـ وجود يستنطق ما بين السماء والأرض، حيث تهذي الفاجعة بصمتها، ويقف الإنسان في هيئة سهم متأهّب، يلتقط أنفاس عذاباته على وتر السكون الموحش.

 

ومن خلال هذا التألق الارتجالي، رسم الفنان محمد عزيزة مناخات من حركةٍ عاصفة، بشطحات ريح تتبع إيقاعات الضوء والظل، حيث كل لوحة تُصبح بقعة من الذاكرة، وكل لون يخفي لونًا آخر، كما في متاهة الحرب والهروب، حيث تتقاطع الندبة مع الحنين، والفاجعة مع رومانسية الطبيعة. واظب على رسم المنظر حتى آخر رمق، في حلّة رومانسية تكشف عن الصراع الكامن في الطبيعة، سواء في بحارها أو جبالها، كأنه يرسم انبثاق الوجود دون أن يحدّه برؤية واحدة، بل عبر طبقات متراكبة تُجسّد شاعرية المغيب، وأسرار النسيج اللوني الشفّاف، وإيقاعات السحر المعلّق في عزلة صامتة، تستبطن وجع العالم وسكونه.





العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟