
كما كان متوقعاً، فقد توجب على الأمن العام اللبناني التعامل مع الضغط الإنساني الذي جرى من خلال تجمّع ما يقدّر بـ 1800 إلى الفي فرد من مهجري السيدة زينب في دمشق، منذ الثلاثاء الفائت، عند الحاجز المشترك للأمن العام والجيش، المستحدث فوق دائرة الدخول على معبر المصنع الحدودي، بعدما لم يسمح بدخولهم إلى لبنان لعدم استيفائهم الشروط المطبقة على دخول السوريين من حيازة إقامة أو تذكرة سفر.
فكانت التخريجة بأن تولّت لجنة فنية من المديرية العامة للامن العام دراسة ملفاتهم. وبناء عليه سمح بدخول "مؤقت" لفئتين منهم، بحسب مصادر في الأمن العام: من استوفوا الشروط، من دون توضيح ماهية هذه الشروط، والحالات الإنسانية كالنساء والأطفال والعجزة والمرضى المزمنين. وكان "تجمّع أطباء بعلبك" قد زارهم، أمس، في المصنع حاملاً معه معلبات وزعها عليهم، ورفع لائحة للأمن العام بأصحاب الأمراض المزمنة منهم.
أما الفئة الثالثة، والتي "شكلّت ثلث عددهم"، فلم يسمح لها بالدخول لعدم استيفائها الشروط، وطلب منها العودة أدراجها. وقد جرى التشدد في دراسة ملفات الذكور منهم، لجهة عدم وجود ملفات أمنية بحقهم في لبنان.
وتنتمي تلك العائلات الى البيئة التي ساندت وشاركت في القتال الشيعي المسلّح لصالح نظام الأسد، وقد هربت إلى لبنان خوفاً من أعمال انتقامية بحقها، مستفيدة من الفراغ على معبر جديدة يابوس السوري. وكان قد سبق ودخلت دفعة أولى منهم إلى لبنان، يوم الاثنين الفائت، بقرار "استثنائي، لدواع إنسانية"، من دون أن يعلن حتى الساعة عن الأرقام الرسمية للدفعتين، ولا شرح وضعهم القانوني، ومن دون معرفة وجهتهم وإلى أين انتقلوا أو نُقلوا.
علماً أن أعداداً جديدة من تلك العائلات بدأت بالتجمّع في المكان عينه وإن بأعداد أقلّ حتى الساعة، وهم يأتون حاملين أمتعتهم وأثاثاً من بيوتهم لقناعتهم، كما من سبقوهم، بأنهم لن يعودوا.
بموازاة لجوء السوريين الموالين للأسد إلى لبنان، فإن حركة العائدين من لبنان إلى سوريا، من الثائرين على نظام الأسد أو الهاربين من القتال معه لا تزال قليلة نسبياً. " 8 سنوات و 26 يوماً" هي مدة لجوء الرجل المسن الذي يقطن مع عائلته في غرفة بحرم المصنع الذي يعمل ابنه فيه. وعلى الرغم من أنه يعدّ بالأيام إقامته القسرية، إلا أن عودته وعائلته متروكة للأيام. أمام المصانع، في ورش البناء، الميكانيك، الزراعة، في المطاعم، سواء سكنوا الشقق أو المخيمات جواب السوريين واحد "طبعاً سنعود"، لكن العودة دونها تذليل عدة عقبات أولها انتظار استتباب الأوضاع في سوريا، فسكان دير الزور ينتظرون مثلاً انجلاء غبار المواجهات مع "قوات سوريا الديمقراطية" والفوضى القائمة في مناطقهم، انقضاء فترة الشتاء والبرد ليتسنى لهم العودة لترميم وتأهيل وإما إعادة بناء منازلهم،"لو كنا في الصيف لعدنا فوراً ونصبنا الخيام وسكناها"، وهو الأمر المتعذر في فصل الأمطار والبرد، سيما وأن سكان الخيام في البقاع قد حصّنوا خيمهم وجمعوا الحطب وتزودوا بالمحروقات وأعدوا المؤونة لفصل الشتاء، فيما تفتقر المحافظات السورية للكهرباء والغاز والمحروقات، ومشهد "غالونات البنزين" الخارجة مع أمتعة المغادرين عبر المصنع شاهد على ندرة هذه المادة في سوريا. ثمة من يتريث لتصفية أشغال وبيع ممتلكات اقتناها في لبنان كمثل سيارة، موتوسيكل، بضائع.... فالبائع الجوّال بين المخيمات للبوظة صيفاً وبضائع مختلفة شتاء يتحضر لتصفية عمله المتواضع ويعود إلى حيث كان مالكاً لـ 300 كعب زيتون، وتجديد بستانه.
يأمل السوريون المقيمون قسراً في لبنان، مع انقضاء فترة الانتظار تلك، أن تكون قد بدأت ورشة الإعمار في بلادهم، فيعودون للمشاركة فيها، ويؤمنون مداخيل تغنيهم عن أشغالهم في لبنان، والأهم "أن نضب أولادنا في المدارس ليتعلموا" وهو حق حرموا منه خلال إقامتهم في لبنان. أمام أحد المصانع في المدينة الصناعية لتعنايل، تجمّع العمال في الباحة، وفي سؤالهم عما إذا كانوا ينوون العودة إلى بلادهم، وفيما جميعهم يجزمون بالعودة، تدخل زميل لهم وهو من فلسطينيي لبنان مقاطعاً "لا تصدقي لن يعودوا، فهؤلاء من أسسوا هذا المصنع، بات لهم 20 سنة يعملون هنا"، ولما إستاؤوا من كلامه قال "أنا من مصلحتي أن يغادروا فيصبح راتبي ألف دولار"، في إشارة إلى أن مغادرتهم سترفع الطلب على اليد العاملة. وفيما كان النقاش محتدماً بين رفاق العمل، حضر شاب معه طفل وطفلة، وكان الصبي مستغرقاً بالبكاء، فتبين أن سبب بكائه هو أنهم قدموا لوداع جده وهو من عمّال المصنع، قبل مغادرتهم نهائياً إلى سوريا، معانقاً حفيده راح الجدّ يطمئنه "لا تقلق سننزل ونزوركم بين الفنية والأخرى".
لغاية الآن فإن الأمن العام اللبناني على معبر المصنع يعمل بالنيابة عن حدودين، إلا أنه من المتوقع أن تعود الحدود السورية في جديدة يابوس إلى الخدمة يوم الأحد المقبل بعد فترة فراغ منذ سقوط نظام الأسد، وسيكون لضبط الحدود السورية أثره على أعداد القادمين إلى لبنان والعائدين إلى سوريا منه، عبر معبر المصنع. فمن بين السوريين المقيمين في لبنان من ينتظرون ضبط العمل على الحدود اللبنانية – السورية ليتمكنوا من التنقل بين البلدين لاستطلاع أحوال بيوتهم وأرزاقهم ليقرروا موعد عودتهم النهائية، من دون متاعب مع الأمن العام اللبناني في طريق الإياب. هذه المتاعب جعلت خط العابرين في الجبل عبر المسالك غير الشرعية ناشطاً ليلاً نهاراً، لتفادي المرور بالأمن العام اللبناني وبالتالي الحصول على منع الدخول إلى لبنان. بعيداً عن الحدود وسلامة إجراءاتها التي ستصيب لبنان كما سوريا تداعيات المتغيرات السورية، فإن رعب السوريين في لبنان من الحدود قد سقط، "حتى لو قام الأمن العام اللبناني اليوم بتوقيفنا وترحيلنا إلى الحدود، فما عدنا نخشى أن ننتهي في سجون الأسد ولا شبابنا في الخدمة الإلزامية في جيشه".