مسيحيو لبنان روّاد نهضة ثقافية قبل الدور السياسي

لا يُنظر إلى الوجود المسيحي في لبنان بشقه السياسي فقط، على الرغم من أهمية هذا الدور في ولادة لبنان الكبير، وجعله واحة حضارة وحرية، بل من الشق النهضوي الاقتصادي والثقافي الذي كان أساسياً في بناء صروح الثقافة وتطور اللغة وانتشار العلم والتعليم. أسّس المسيحيون المدارس والجامعات والمستشفيات، والمياتم ومراكز الإيواء ورعاية المعوقين، قبل الأعمال التي توزعت على الصناعة والتجارة، خصوصاً السياحة، فساهموا في النهضة الاقتصادية والمالية. 

المنحى الثقافي
ساهمت الإرساليات الغربية، لا سيما فرنسا وروسيا والنمسا، في رعاية الطوائف المسيحية المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية، قبل أن تتوجه إلى البلد الصغير البعثات البروتستانتية الأميركية، وتدخل في تنافس في ما بينها، ادى الى بلوغ الحالة الثقافية القرى البعيدة والنائية. وابرز دليل على هذا التنافس قيام الجامعة الاميركية (البروتستانية) والجامعة اليسوعية (الكاثوليكية) مع المدارس والمستشفيات والمراكز التابعة لكل واحدة منها. 

كان للمدرسة المارونية الحبرية، التي تأسست في روما عام 1584، الفضل الأكبر في حركة النهوض، لتكرّ سبحة المدارس والجامعات والصروح التعليمية والتربوية. وقد ارتبط تطور قسم كبير منها بنيوياً بالتصميم والإرادة الصلبة لدى الآباء اليسوعيين الذين وفدوا الى الشرق.
ومنذ عام 1834، انخرط اليسوعيون إلى جانب بعثات كاثوليكية أخرى في تطوير مسار علمي ثقافي وديني متميز، فتم تأسيس عدد من الأديار شكلت مكاناً لتعليم وارشاد التلامذة الإكليريكيين على غرار دير عين تراز.
ولاحقاً، انتعشت الرهبانيات المحلية في لبنان وسوريا، واشتهرت المدارس الوطنية، وكانت أبرزها: مدرسة عين ورقة 1789، مار عبدا 1820، ريفون 1832، مدرسة دير المخلص 1828، المدرسة الوطنية لبطرس البستاني 1851، الثلاثة أقمار 1856، البطريركية 1865، مدرسة الحكمة 1876، وزهرة الإحسان 1880...
وناهز عدد المدارس المسيحية الوطنية في مرحلة عام 1896 نحو 107 مدارس مع خمسين مدرسة للإرساليات التبشيرية.

والمطابع ايضا، اقترن وجودها أيضاً بوجود الارساليات التبشيرية والنهضة المسيحية المارونية، فكانت أول مطبعة للحرف السرياني في الشرق الأوسط في دير مار أنطونيوس قزحيا للرهبانية اللبنانية المارونية (البلدية) عام 1585، ليُطبع أول كتاب عام 1610.
ثم كانت مطبعة دير مار يوحنا الصايغ للرهبانية الباسيلية الشويرية في الخنشارة، وهي أول مطبعة للحرف العربي. وفيها طبع اول كتاب باللغة العربية وعنوانه "ميزان الزمان" في العام 1734. 
وقد أدركت الرهبانية اليسوعية أهمية التعليم لترسيخ مفاهيم الايمان المسيحي الكاثوليكي فأنشأت المطبعة العربية في روما لهذا الخصوص، وراحت تطبع الكتب هناك وترسلها الى الشرق.
هذا إضافة إلى مطابع أخرى كثيرة، نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- مطبعة القديس جاورجيوس، وهي من أولى مطابع بيروت، تأسست عام 1751. المطبعة الأميركية تم نقلها من مالطا إلى لبنان عام 1834، وقد ساهمت بثورة حقيقية في حركة الطباعة في لبنان. المطبعة الكاثوليكية عأنشئت عام 1848، لتكرّ من بعدها سبحة المطابع.

الدور السياسي
لم يبدأ تاريخ الحضور المسيحي مع قيام الاستقلال عام 1943، والذي كرس للمسيحيين حصصاً وازنة في الدولة الحديثة، بل يعود دورهم الى عهود قديمة، وكانت لهم مقاومتهم للزمن العثماني، وتصدوا لمحاولات التتريك، وانبثقت مقاومتهم خصوصاً من داخل المجتمع الماروني، الذي عانى الاضطهاد منذ قيام المارونية في سوريا، وصولا الى ضفاف نهر العاصي، وجبال لبنان الشمالية. وكانوا يطمحون، ولا يزالون، الى قيام دولة ترعى شؤون العباد وتحكم بالعدل من دون تمييز عرقي أو طائفي. 

حقق الموارنة حضوراً فاعلاً في المحيط القريب والبعيد، وعملوا بجرأة من أجل وضع الأسس لوطن تعدديّ منفتح على الجميع، ونضال مستمرّ في سبيل الحرية والعيش الكريم.
في العام 1920، عند تأسيس لبنان الكبير، لعب الموارنة دوراً متقدماً عبر البطريرك الياس الحويك، في تكوين كيان لبناني تعددي، رَسَم هوية وطنية لبنانية جامعة ضمن دولة واحدة. وأدركوا شيئين، أولا، الفكرة اللبنانية التي دعوا إليها في الأصل، وتفترض ألا يكون لبنان وقفاً على الموارنة فقط بل لجميع اللبنانيين على السواء؛ وثانياً، انكفاء الكنيسة عن القيادة السياسية لصالح الدولة والمؤسسات، من دون التراجع عن القيادة الوطنية، خصوصاً في المحطات المصيرية المفصليّة. وهو أمر تمّت ترجمته عند اندلاع الحرب اللبنانية، يوم تحرّكت الكنيسة، واستثمرت علاقاتها مع الغرب لحماية الكيان من الفلسطيني أولا، ومن السوري لاحقاً. ولعبت البطريركية المارونية برئاسة البطريرك نصرالله بطرس صفير دوراً اساسياً في إنهاء الحرب، والقبول باتفاق الطائف الذي صار دستور الجمهورية الثانية.

في زمن الطائف، دفع المسيحيون أثماناً قاسية، يوم تمّ تفجير كنيسة سيدة النجاة، واغتيال القيادي في حزب الوطنيين الاحرار داني شمعون وعائلته، ثم اعتقال قائد القوات اللبنانية سمير جعجع وحلّ الحزب، ونفي قائد الجيش  ورئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون، فقادت بكركي البيئة المسيحية المعارِضة للنظام الأمني اللبناني - السوري، وحملت لواء الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان والحفاظ على الحد الأدنى من مقومات النظام السياسي اللبناني والدولة، التي أرادتها حرة سيّدة ومستقلة. 

تُوجت محطات المعارضة المسيحية بالبيان الشهير للمطارنة الموارنة عام 2000،  الذي هزّ التوازنات التي كرسها السوري على مدى سنوات، وطالب بانسحاب سوريا من لبنان.

وفي الـ2001، عملت البطريركية على إزالة رواسب الذاكرة بين المسيحيين والدروز من خلال مصالحة الجبل، التي أصبحت محطة محفورة في تاريخ الأحداث الكبرى في لبنان وأسست لتحولات كبرى.

بعدها ساهمت في العام 2001 أيضاً بتكوين لقاء قرنة شهوان الذي كان المدماك للقاء البريستول، ولاحقاً ثورة الأرز وانتفاضة الاستقلال، فبدأت نضالات المسيحيين تزهر، بمشاركة الطرف المسلم، في عملية استعادة لبنان. وقد لعب البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله بطرس صفير دوراً كبيراً في تحفيز وتحريك هذه الجهود.

ومع ثورة الأرز وخروج سوريا من لبنان، أعيد الزخم إلى القوى السياسية المسيحية، وباتت أمام فرصة جديدة لتعزيز دورها في الحياة السياسية اللبنانية. سرعان ما حاولت الهيمنة الجديدة المتمثلة بـ "حزب الله" وارث الوصاية مصادرتها أو سحقها كلياً.
مذاك، حمل البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي إرث سلفه نصرالله صفير، وبدأ عملية مواجهة النفوذ المتزايد لـ"حزب الله"، واعتبره تهديدا للسيادة الوطنية واستقرار لبنان، رافضاً في كل عظاته أي سلاح خارج إطار الدولة. وكلّلها الراعي بتجمّع شعبيّ كبير يوم 27 شباط 2021، رسم فيه خريطة المواجهة. هذا، إلى جانب الدور الذي تقوم به الأحزاب المسيحية السيادية، كالقوات اللبنانية والكتائب وقوى المعارضة الوطنية.

يعتبر الموارنة أنفسهم مؤتمنين على صيغة لبنان السيّد الحر المستقلّ، وذلك بمعزل عن نسبتهم العدديّة. فلبنان بالنسبة إلى الموارنة هو مساحة حريّة وإيمان... ورسالة.