بعض حملات التشجير في لبنان حسنة النية في الظاهر وباطنها خطير... ليس كل أخضر خيراً (فيديو)

في لبنان، تُسوَّق بعض حملات التشجير بوصفها قصص نجاح بيئية: صور لشتولٍ صغيرة تُغرس في أعالي الجبال، متطوّعون يبتسمون للكاميرا، ووعودٌ باستعادة "الخضار" المفقود. لكنّ التدقيق في الكواليس يكشف وجهاً آخر أقلّ بهاءً: التفاف على القانون، ثغراتٌ في الرقابة، وقرارات ميدانية تُتَّخذ بمعزلٍ عن التقييمات البيئية الملزِمة، ما يحوِّل بعض المبادرات إلى مصدر ضررٍ حقيقي على النُظم البيئية وأنواعٍ مهدّدة بالانقراض.
هذا التحقيق يتتبّع الخيط من نصّ القانون إلى أرض الواقع: من صنين إلى الشوف والأرز وتنورين، مروراً بمراسلاتٍ رسمية لم يُجب عنها، وشهادات خبراء ومسؤولين، وصولاً إلى نماذج بديلة تُثبت أنّ التشجير الرشيد ممكنٌ متى التزم العلم والقانون.
في لبنان، تُسوَّق بعض حملات التشجير بوصفها قصص نجاح بيئية: صور لشتولٍ صغيرة تُغرس في أعالي الجبال، متطوّعون يبتسمون للكاميرا، ووعودٌ باستعادة "الخضار" المفقود. لكنّ التدقيق في الكواليس يكشف وجهاً آخر أقلّ بهاءً: التفاف على القانون، ثغراتٌ في الرقابة، وقرارات ميدانية تُتَّخذ… pic.twitter.com/Y6CUBdntg2
— Annahar النهار (@Annahar) September 30, 2025
الإطار القانوني: نصّ واضح وتطبيقٌ مُلتبس
يُحدّد القانون اللبناني رقم 444/2002 لحماية البيئة، ومرسومه التطبيقي 8633/2012 (لا سيما المادة السادسة والملحق رقم 2)، سلسلةَ آلياتٍ صارمة قبل الشروع بأيّ مشروع زراعي أو تحريجي: التقييم البيئي المبدئي (IEE) إلزامي، يتبعه – عند الحاجة – تقييمُ الأثر البيئي الشامل (EIA)، إذا تبيّن وجود تأثيراتٍ مهمّة.
عملياً، يُحال ملفّ المشروع على وزارة البيئة التي تُراجع التقرير خلال 30 يوماً وتُقرر: إما السماح بالمضيّ، وإما إلزام صاحب المشروع بإجراء تقييم الـEIA، الذي قد يستغرق بين سنة وسنةٍ ونصف، وفق حجم المشروع. ولضمان الحياد الفني، تُسند أعمال التقييم إلى شركاتٍ معتمَدة (41 شركة مسجّلة لدى مجلس الإنماء والإعمار).
على مستوى الردع، تنصّ المادة 58 من القانون 444 على عقوباتٍ تصل إلى الحبس والغرامة – أو إحداهما – بحقّ كل من ينفّذ مشروعاً يستوجب دراسةً بيئية من دون إجرائها، أو خلافاً للدراسة المعتمدة، أو يُعرقل إجراءات المراقبة والتفتيش. ويُلزم المرسوم بالتقييم الجذري في المواقع التي تُعدُّ موطناً لأصنافٍ مهدّدة بالانقراض، أي إن النصّ واضحٌ ومفصّل، و"الخطوط الحمر" محدّدة سلفاً.
لكن ما هو مطبوع على الورق يختلف عمّا يجري على أرض الواقع حيث تتكاثر المشاريع من دون إجراء فحص بيئي مبدئي، فضلاً عن الأرباح التي تدرّها هذه المشاريع من التمويل الخارجي والدعم الدولي، في غياب الرقابة الفعلية والمساءلة الجدية.
ستّ سنوات من الأعمال بلا موافقة بيئية مسبقة
يصنَّف مشروع تحريج صنين من أبرز حالات الالتباس بين واجهةٍ "خضراء" وممارساتٍ ميدانية مثيرة للجدل. استمرت الحملة أكثر من ست سنوات من دون نيل الموافقة البيئية المسبقة كما يفرض القانون. المفارقة أنّ وزارة البيئة كانت على علمٍ بالمشروع، وأن أعمالاً ميدانية – بينها استخدام جرافاتٍ لحفر التربة نُفِّذت من دون إجراء أي فحص من الفحوص المطلوبة بشكل رسمي.
منذ نيسان/أبريل 2024، فعّل الباحث وخبير النباتات رامي معلوف حقّه في الوصول إلى المعلومات. أرسل كتباً بيئية موثّقة إلى وزارتَي البيئة والزراعة يسأل فيها تحديداً عن ملف صنين، طالباً تعليق نشاطات "تشجير أرز" يرى أنها مخالِفة. ولم يأتِه جوابٌ رسمي. وأعيدت الكرّة باسم الحركة الثقافية في بسكنتا والجوار. ولا ردّ.
وفي 15 و16 نيسان 2025، خاطب وزارتي البيئة والزراعة ومجلس البحوث العلمية بشأن مشاريع تشجير أخرى: الجهة الوحيدة التي أجابت كانت المجلس الذي أكد ضرورة إيقاف الأعمال إلى حين إجراء تقييمٍ أولي.
تواصلٌ هاتفيٌّ مقتضب من داخل وزارة البيئة طمأن الباحث إلى أن "التدقيق جارٍ"، ثم انقطع الخيط. بالنسبة إلى معلوف، لا يقتصر الأمر على إهمالٍ إداري "حين تتقاطع مشاريع ضخمة، وأموال مانحين، يصبح القانون تفصيلاً… والنتيجة أذى بيئيٌ طويل الأمد".
ويؤكد معلوف أن عدداً كبيراً من مشاريع التحريج المنفذة منذ عام 2002 حتى اليوم خالفت القانون البيئي. الأمر لا يقتصر على مواقع محدودة، بل يشمل هكتارات واسعة في الأرز، الباروك، صنين، عيون السمان، تنورين، الشوف والجنوب.
العديد من هذه المشاريع، بحسب معلوف، لم تُجرِ الفحص البيئي المبدئي كما يفرضه القانون، بل الأخطر أن بعض الوزارات منحت الضوء الأخضر للتشجير من دون أي دراسة أولية، وفي بعض الحالات ظهرت أسماء تلك الوزارات على كتيبات الحملات، ما يجعلها شريكة في المخالفة.
عندما تُغيّر الإبرُ حموضة الأرض
يشرح معلوف – مستنداً إلى العلوم البيئية – كيف يمكن لتشجير الأرز والصنوبر أن يُطلق سلسلة تأثيراتٍ غير بديهية: الإبر المتساقطة تُعدِّل الرقم الهيدروجيني (pH) للتربة وتركيبة المياه، والظلال الكثيفة تُقصي الغطاء العشبي تحتها. هذه الظاهرة المعروفة بالـAllelopathy تُفضي إلى تراجعٍ حادّ في النباتات المرافقة، وقد تصل – وفق تقديراته الميدانية – إلى قضم 90% من التنوّع النباتي في المواقع الحسّاسة.
الخطورةُ أكبر في المناطق فوق 1800متر حيث يزدهر التنوع النباتي اللبناني، وتنتشر أنواعٌ مستوطنة لا تُرى في سواها. إحصاءاتٌ رسمية يشير إليها معلوف تقول إن نحو 30% من الأصناف اللبنانية المهددة بالانقراض تتأثّر مباشرةً بمشاريع تشجيرٍ غير مدروسة؛ من بين 108 أصنافٍ مهدّدة، تُعزى أسباب تهديد نحو الثلث إلى التشجير.
وفي الممارسة، تُزرَع الأرزات على المرتفعات، والصنوبر في المنخفضات، علماً، بحسب معلوف، بأن الصنوبر المزروع مستورد وغابات الصنوبر ليست من أساس الغطاء الحرجي اللبناني التاريخي، بل توسّعت منذ خمسينيات القرن الماضي على حساب تنوّعٍ أوسع.
المحصلة؟ مشهدٌ أخضر "يفرح العين"، لكنه قد يُخفي تراجعاتٍ حادة في مؤشّرات التنوّع والتوازن الإيكولوجي.
في دراسة أولية مكوّنة من 26 صفحة، ركّز معلوف على مشروع جبل صنين، حيث يعمل منذ 2018 على دراسة التنوع البيولوجي في المنطقة. ويشير خبراء بيئيون إلى أن التشجير الانتقائي الأحادي يقضي عملياً على التنوع البيولوجي الموجود، ويحوّل المشاريع من مبادرات بيئية إلى تهديدات خطيرة للنظام البيئي المحلي.
يُذكّر معلوف هنا بوقائع ميدانية: في صنين وحده وثّق 38 نبتةً لبنانية مستوطنة، 32 منها مهددة، 15 تقبع اليوم تحت ظلال الأرز المزروع، وثلاث لا توجد إلا في صنين على مستوى العالم.
ثغرات التطبيق وسردية "التكلفة العالية"
في 15 تموز /يوليو 2024، أطلقت جمعية التحريج في لبنان LRI طلب عروض لتعيين استشاريّ لإعداد IEE لخمسة مواقع في صنين، بينما كانت الأعمال بدأت منذ 2018. لماذا الآن؟ نطرح السؤال على مديرة الجمعية الدكتورة مايا نعمة ليأتي الجواب: "نحتاج إلى إعادة النظر في القانون والبحث عن صيغة توافقية ترضي الجميع. فحتى وزارة البيئة نفسها صرّحت بطريقة غير رسمية أمام أصحاب المشاريع والجمعيات بأن لا ضرورة لإجراء فحص بيئي مبدئي، لأن نتيجة الفحص تأتي دائماً إيجابية".
وتقول نعمة لـ"النهار"، إن غالبية عمليات التحريج منذ 2010 نُفذت بالتنسيق مع الوزارات من دون إجراء أي فحص بيئي مبدئي، باستثناء حالاتٍ قليلة. وأحد الأسباب، تكلفة التقييم الأولي (تراوح بين 5 و7 آلاف دولار كحدٍ أدنى، وقد ترتفع بحسب المساحة) التي قد تفوق موازنة مشاريع صغيرة لا تتجاوز 2000 دولار.
والسبب الثاني: إن لم تردّ الوزارة خلال 30 يوماً على طلب الـIEE، يحقّ لصاحب المشروع البدء حكماً.
ونسألها عن الدراسات التي أجريت قبل البدء بأي مشروع، فتجيب بأنه "في كل المناطق التي قمنا بزراعتها، اعتمدنا على دراسات علمية أجريت بالتعاون مع الجامعات مثل الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة البلمند، وناقشناها مع الوزارات وخبراء لبنان. وعلى أساسها، أطلقنا مشروع الممر الحيوي البيئي والأصناف التي يمكن زراعتها في كل منطقة يشملها هذا الممر الطويل الذي يربط قرى عديدة به.
من منظورٍ مؤسسي، تقترح نعمة حلاً مزدوجاً: أولاً خريطة رسمية تُقسِّم لبنان إلى مناطق محميّة وأخرى للرعي وثالثة للتحريج، وثانياً إعادة تنظيم مسار الـIEE والـEIA داخل الوزارة بحيث تتحمّل الدولة عبءَ التقييم العلمي بدل تحميله للجمعيات.
وقد حاولنا التواصل مع وزير البيئة السابق ناصر ياسين، ووجّهنا إليه أسئلتنا بهذا الشأن، إلا أننا لم نتلقَّ أي رد حتى لحظة إنجاز هذا التحقيق.
ويبقى السؤال قائماً: إن كانت التكلفة والمهَل القانونية تُعطِّلان الالتزام بالنصّ، فلماذا لا تُعدِّل الوزارة النصّ علناً عبر مسارٍ تشريعيٍّ واضح، بدل تكريس ممارسةٍ "واقعية" تُشجّع التفلت وتُضعف الردع؟
يرى معلوف أن التحالف بين الجمعيات البيئية والوزارات يثير الدهشة ويطرح سؤالاً واضحاً: من يدير من؟ ويصف ما يجري بأنه جريمة بيئية، قائلاً: "هناك مخالفة للقانون بعلم الوزارات. وهذه المشاريع تجني أموالاً كبيرة نتيجة تمويل المانحين مقابل زرع عدد محدد من الأشجار، فيما الممارسات الفعلية على الأرض تتجاهل القانون والمعايير البيئية والتنوّع البيولوجي".
يدعم المانحون الدوليون حملات التشجير بأرقامٍ كبيرة. ويستشهد معلوف بمثالٍ من عام 2015 حينما موّلت جهةٌ أميركية مشروعاً واحداً بمبلغ من 12 مليون دولار. كذلك تنتشر حملاتٌ ترويجية من نوع “ازرع أرزة باسمك" مقابل 45 دولاراً وتصل في بعض الأماكن إلى 100 دولار. في الظاهر، يبدو أن الموضوع توعوي وتمويل مجتمعي. لكن من دون تقييماتٍ ومراقبة، قد تتحوّل الأموال إلى حوافز لزراعة الأرقام لا النُظم، ولإظهار إنجازٍ سريعٍ على حساب جودةٍ بيئية مستدامة.
الشوف تحت المجهر: "الجلول" ومواطن الأزهار المُهدَّدة
من صنين إلى محمية الشوف، تتكرّر الملاحظة: نصٌّ يُلزم بالدراسات في مواطن الأنواع المهدّدة، ومشاريعُ تمضي بلا دراساتٍ كافية.
ويشرح معلوف أنّه "إلى جانب حملات التشجير، لجأ القائمون على المشاريع إلى تنظيم ما يُعرف بـ'الجلول'، وهو أكبر خطأ يمكن ارتكابه، إذ يؤدي عملياً إلى القضاء على كامل التنوع البيولوجي في المنطقة، فضلاً عن الأثر البيئي السلبي لتشجير الأرز والصنوبر".
وبالاستناد إلى القانوني البيئي، تنص إحدى مواده على أن "المناطق التي تُشكّل خطراً على الأصناف المهددة بالانقراض (الحيوانات او النباتات) تستلزم دراسة الأثر البيئي"، فيما، كما يوضح معلوف، "لم تُجر أي دراسة على أرض الواقع، ما أدّى إلى انقراض أنواع نباتية وتهديد أخرى بالمصير ذاته".
تشخيصٌ جزئي وانتظار قانونٍ جديد
ولكن ماذا قال وزير الزراعة ورئيس محمية أرز الشوف نزار هاني؟
في تقييمه للأمور، يحتاج ملفّ التحريج إلى قرار تنظيمي خاص تعمل عليه الوزارة بالتوازي مع قانون غاباتٍ جديد يُفترض أن يُحال على مجلس النواب.
ويعترف بأن دراسات الـIEE/EIA لا تُجرى في كل المواقع بسبب كثافة المشاريع لدى الجمعيات والبلديات، لكنه يؤكد أن مشاريع كبيرة موزّعة على أكثر من ستة مواقع خضعت لدراساتٍ بيئية ونفّذتها جمعياتٌ محلية بإشرافٍ رسمي. ولكن هذه المعلومة لم يرفقها الوزير بأي أدلة أو نسخة عن هذه الدراسات للاطلاع عليها والتأكد منها.
ويرى هاني أن سياسة التحريج الحالية "تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر". ويأمل أن يُحدث القرار التنظيمي التغيير المطلوب.
غير أن الوزير – رغم انفتاحه في الحوار – لم يُجب عن أسئلةٍ تفصيلية تتعلق بعدد المشاريع التي مُنحت الموافقة، والمعايير العلمية الخاصة بزراعة الأرز حصراً، وحالات تطبيق العقوبات الواردة في المادة 58، وعدد المشاعات التي حصلت على موافقاتٍ رسمية. في المقابل، يدفع باتجاه سردية "التطوّر": من "التجليل" في الستينيات (الذي أضعف التنوّع حول أرزاتٍ رُكِّز عليها) إلى سياسةٍ أحدث تُنتِج نحو 30 نوعاً من الأشجار والشجيرات عبر تعاونيات ومشاتل حرجيّة، وتزرع اليوم حتى 10 أنواعٍ في بعض المواقع وفق ارتفاعها وطبيعتها، بهدف إعادة تأهيل النظام لا مجرد زيادة العدد.
نموذج ناجح في تنورين
على الضفة الأخرى، تُظهر تنورين أنّ الالتزام العلمي ليس ترفاً. عام 2017 قرّرت البلدية إدارة مشاع الجرود (1900-2400 متر) الذي يضمّ نبعاً حيوياً وغطاءً نباتياً وحيوانياً متنوّعاً، عبر مخططٍ توجيهي أُعدّ بالتعاون مع جامعة البلمند. ولسنتين كاملتين، درست فرقٌ أكاديمية الجيولوجيا والمؤشرات الفيزيولوجية والبيئية، وانتهت إلى إمكان إطلاق 12 مشروعاً، بينها تحريجٌ وإعادة تحريجٍ للّزاب وأنواعٍ برّية أخرى، تحت إشراف مصلحة الغابات في الوزارة.
نتيجة التحليل الدقيق: 50 هكتاراً فقط صالحة للزراعة من أصل 80، من دون آلياتٍ ثقيلة حفاظاً على التربة، وبخطة زرعٍ تُوزّع الأنواع بين لزابٍ وتفاحٍ بري ووردٍ بري وغيرها، مع مسافاتٍ مدروسة ومعايير للزراعة والري.
ولم يتوقف الأمر عند الغرس: متابعةٌ دورية لكل قطعة أرض، تسييج لحماية الشتول، ونسبةُ نجاحٍ بلغت نحو 80%. ويُعزى هذا النجاح إلى اعتماد التقييم البيئي المبدئي ودراسة الأثر البيئي قبل التنفيذ، إضافة إلى إشراك السلطة المحلية والمجتمع في مراحل التخطيط والمتابعة.
وتوضح ريتا البكاسيني، المسؤولة عن تنفيذ مشاريع تنمية في البلدية ومستشارة رئيس البلدية لمشاريع التنمية الريفية، أنّ نتائج الدراسة العلمية لم تقتصر على تحديد المشاريع الممكنة، بل شملت تحليل خصائص كل مساحة من الأرض وتحديد الهدف من أي مشروع، سواء كان لمكافحة التصحّر، أو لزيادة الغطاء النباتي، أو لخلق فرص عمل، أو لإنشاء غابات جديدة. كذلك تمّ الالتزام بالقوانين البيئية، بدءاً من التقييم البيئي المبدئي وصولاً إلى دراسة الأثر البيئي الشامل.
في المقابل، تُحذّر البكاسيني من مشاريع تشجير تُنفّذ في مناطق أخرى من دون أي تقييم علمي، سواء عبر التقييم البيئي المبدئي أو دراسة الأثر البيئي عند الضرورة، معتبرة أنّ الخطر الأكبر يكمن في الجمعيات البيئية التي تضم خبراء متخصّصين يدركون أنّهم يعملون بطريقة خاطئة، لكنّهم يستمرون بسبب كثافة المشاريع وتوفّر فرص التمويل والتوظيف.
وتستشهد بمثال عن جمعية بيئية عرضت على البلدية استثمار أرض لزراعة السمّاق بهدف تحقيق عوائد تجارية، لكن النقاش مع خبراء علميين كشف أنّ المشروع لم يخضع لأي دراسة أولية، بل استند إلى التمويل المتاح وتوظيف المهندسين فقط، علماً بأنّ نبات السماق لا ينمو أصلاً على الارتفاع المحدّد (1700 متر).
وتصف البكاسيني هذا النهج بأنه "سلوك جشع. فالمساحات موجودة والتمويل أيضاً، والعمل على أهداف موقتة من دون دراسة الأثر البيئي على المدى الطويل". وتلخّص بالقول: "الحديث عن الانتهاكات من دون البحث عن الحلول لن يجدي نفعاً. لذلك على الوزارات المعنية، خصوصاً البيئة والزراعة، أن تؤدي دورها وتطبق القانون من أبسط بنوده وتفعيل إداراتها، إلى جانب مجلس الإنماء والإعمار الذي يجب أن يؤدي دوره. كما يجب التشبيك مع المعاهد البيئية في الجامعات التي تملك القدرة والخبرة لإعداد التقييم البيئي ودراسة الأثر البيئي والالتزام بتوصيات الوزارات".
مشروع من دون تقييم بيئي
في مقلب آخر في المنطقة نفسها، شهدت بلدة تنورين بين عامي 2011 و2013 حملة تشجير بالقرب من محميتها الطبيعية، شملت نحو 4000 شجرة أرز، نفذتها إدارة المحمية بالتعاون مع جمعية التحريج في لبنان. إلا أن هذه المبادرة، وفق ما يؤكده شليطا طانيوس، رئيس جمعية "تنور ونور"، لم يسبقها أي تقييم بيئي مبدئي، ما أدى إلى فشل نسبة كبيرة من الأشجار المزروعة في النموّ، إذ لم تصمد طويلاً.
يسعى طانيوس ومجموعة من النشطاء البيئيين إلى رفع الوعي حول مخاطر التشجير غير المدروس، أو حصر الزراعة بنوع واحد من الأشجار دون سواه أو ما يُعرف بالزراعة الأحادية، لما لذلك من أثر سلبي على التنوع البيولوجي.
ويؤكد في حديث إلى "النهار" أن "الناس متمسكون برمز الأرزة لما تحمله من دلالات تاريخية ودينية، لكن من واجبنا رفع مستوى الوعي بأخطار التشجير الأحادي وأضرار زراعة الأرز حصراً في القضاء على نباتات وأصناف أخرى، والعمل على الحفاظ على الأنواع المحلية المتنوعة في كل منطقة".
اليوم، يسعى خبراء البيئة والنشطاء إلى إدخال أصناف إضافية إلى جانب الأرز، حفاظاً على مكونات النظام البيئي وتوازنه. لكن هذه الجهود تبقى محدودة في ظل غياب التطبيق الفعلي للقوانين البيئية.
في الفترة الممتدة بين 2023 و2024، أطلقت جمعية "تنور ونور"، بالتعاون مع بلدية تنورين ومحمية أرز تنورين، حملة بيئية لتعزيز الممر البيئي الذي يربط الجرد العالي والأراضي الزراعية بمحمية أرز تنورين. شمل التشجير 1000غرسة محلية موجودة في هذه الأماكن الطبيعية ضمن ممرين بيئين (500 غرسة في وادي عين البيضا و500 غرسة في وادي المسيل) من أصناف مختلفة من أشجار وشجيرات، مثل الزعرور الأحمر، البربريس، كرز بري وPrunus prostrata وlonicera nummulariifolia واللزاب والورد البري. وتمثل الهدف في تأمين ممر آمن للحيوانات البرية ومأكل للطيور للسيطرة على أعداد القوارض، إلى جانب حماية مصادر المياه.
ورغم إجراء خبراء تقييماً بيئياً أولياً، فإن أي دراسة تقييم مبدئي لم تُرفع إلى وزارة البيئة كما يفرضه القانون، بل اكتفى المعنيون بزيارة ميدانية وتقييم للأصناف المحلية التي تعيش في هذه المواقع، والتي على أساسها تم اختيار الأصناف المذكورة.
يؤمن طانيوس بمبدأ "حماية الأنواع القائمة قبل إدخال أشجار غير موجودة أصلاً في المنطقة". ولا يُخفي أن الفكرة "قد تبدو غريبة للبعض، لكن عندما نشرح أهمية التنوع في التشجير وضرورة درس خصائص كل منطقة قبل أي مشروع، ننجح في زيادة الوعي بأهمية الحفاظ على التنوّع البيولوجي وحماية الأنواع المهددة بالانقراض".
ويشدّد على أنه "قبل الحديث عن أي تشجير، من المهم أولاً إجراء تقييم بيئي مبدئي ودرس الأثر البيئي عند الحاجة، لنتأكد من صحة التشجير من عدمه والأصناف المناسبة في كل موقع". وينبّه إلى أن "التشجير الذي نشهده، سواء التشجير الأحادي للأرز والصنوبر أو الأشجار المثمرة، مثل الصنوبر، كما تعتمد بعض البلديات أخيراً، إذا ما أجري من دون أي تقييم بيئي مبدئي أو دراسة الأثر البيئي وخاصة في المواقع البيئية، نكون بذلك نتسبب بالقضاء على بعض أصناف الحيوانات أو الطيور مثل الحجل، أو نباتات لم تُجرَ عليها دراسة بعد، وتحتاج إلى المراقبة والمتابعة قبل السير بأي حملة تشجير".
الإدارة الرشيدة لا تعني دائماً "المزيد من الأشجار"
من تنورين إلى عكار، تتواصل رحلة البحث عن الأجوبة. ولا يقتصر العمل على رصد الانتهاكات والخروق البيئية فحسب، بل أيضاً يتعداه إلى طرح أسئلة جوهرية عن حلول مستدامة وبدائل علمية تحافظ على النظم البيئية وتمنع تدهورها. فهل يكفي أن نزرع شجرة ونكتفي بالمشهد الأخضر، أم الهدف أعمق بكثير؟
يرى خبير إدارة الغابات خالد طالب أن السؤال الأول في أي تشجير يجب أن يكون: لماذا نزرع؟ للمنظر؟ للأخشاب؟ أم لاستعادة نظامٍ إيكولوجي؟ ولكل جوابٍ وصفةٌ مختلفة. التحريج العشوائي قد ينتج غابات "بونزاي" على ارتفاعاتٍ غير ملائمة (مثل 2400 متر) حيث تتقزّم الأرزات وتعجز عن أداء وظائفها، أو يُغطي أزهاراً نادرة سرعان ما تختفي مع اكتمال ظلّ الأشجار.
والإدارة الرشيدة – يقول طالب – لا تعني دائماً "المزيد من الأشجار"، بل قد تتطلّب تخفيف الكتلة الحيوية في بقعٍ مكتظة، وخطة دقيقة تُحدّد أين نزرع وأين نُرقق، وأيّ أصنافٍ تناسب كل ارتفاعٍ وتربةٍ ومناخ.
ويذكّر أيضاً بأن الغابات اللبنانية متوسطة الطابع وعريضة الأوراق في أصلها، ما يمنحها قدرةً على التكيّف مع الجفاف وتقلبات المناخ، بعكس الأرز الذي قد ينهار إذا تعرّض لجفاف شديد، فنهدر سنواتٍ من العمل. وهذا ما يفسّر ظاهرة يباس بعض أشجار الأرز أو عدم تجدّد أشجار الشوح في بعض المناطق.
ما الذي يجب أن يتغيّر؟ تطبيق القانون ومواده أو إعادة تعديله ومحاسبة كل من ينتهكه. ولن يبدأ التغيير إلا من هنا.
الوقائع السابقة لا تقول إن التشجير "سيّئٌ بذاته". بالعكس، هو أداةٌ أساسية في إعادة تأهيل النُظم، وحماية التربة من الانجراف، وتثبيت الرطوبة، وتقوية قدرة المناظر الطبيعية على التكيّف المناخي. ولكن حين يُدار بلا سؤال الهدف، وبلا تقييمٍ علميٍّ مُسبق، وبلا رقابةٍ شفافة، يصبح جزءاً من المشكلة. وتُذكّرنا شهادات الخبراء بأن ليس كل أخضر خيراً. الخير هو الأخضر الملائم الذي يُعيد للنظام البيئي توازنه… لا تشجير بلا تقييم، ولا حملة بلا مساءلة.
بعض الأزهار التي انقرضت أو المهددة بسبب التشجير أو عدم إجراء الدراسات البيئية:
* زهرة Chaerophyllum syriacum: انقرضت على فترة 80 عاماً نتيجة زرع بستان تفاح فوقها من دون دراسة أي أثر بيئي. ولحسن الحظ وجدت في بقعة لا تبعد عنها 200 متر وهي اليوم مهددة بالانقراض بقوة.
* زهرة Klasea mouterdei: سُمّيت على اسم الراهب اليسوعي paul mouterdei – كانت تنمو على نهر البردوني ولكن بسبب إنشاء أحد المعامل هناك قُضي عليها نهائياً.
* زهرة Cephalaria cendrorum: موجودة فقط في الشوف وبسبب التشجير اصبحت مهددة بالانقراض نهائياً، بعدما كانت موزعة في كل المحمية.
* زهرة Iris Susiana: موجودة في الشوف ومهددة بالانقراض بسبب التشجير.