قرويات في المغرب مهمشات منسيات... التمكين الاقتصادي لم يصل إلى بلدة فاطمة

في قريةٍ صغيرة على سفوح جبال الأطلس المتوسط تُدعى إينزر، تتناثر بيوتٌ من الطين والحجر، وتتداخل معها حياةٌ قاسية لا يعرف أصحابها الراحة إلا قليلاً. هنا تعيش فاطمة، امرأة في الخامسة والأربعين، رسمت الحياة على وجهها علامات التعب المُزمن، لكنها لم تمحُ ابتسامةً خجولةً تخفي الكثير من الألم.
تبدأ فاطمة يومها مع أولى خيوط الشمس، وتنطلق إلى الحقول لترعى المواشي وتجمع المحاصيل. عملٌ مرهق يمتد من الفجر إلى المغيب في مقابل أجر زهيد لا يتجاوز 70 درهماً في اليوم، من دون أي حقوق أو ضمانات. وعندما تسألها "النهار" عما تعنيه لها كلمة "التمكين الاقتصادي"، تبتسم بمرارة قائلة: "سمعنا هذه الكلمة كثيراً في التلفزيون، لكنها لم تصل إطلاقاً إلى قريتنا، نحن لا نطلب الكثير، فقط أن يعترفوا بنا وبجهدنا".
نساء غير مرئيات أمام مؤسسات الدولة
حكاية فاطمة ليست سوى واحدة من قصص مماثلة منتشرة في مداشر المغرب، وهو ما تُثبته دراسة حديثة أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسسة حكومية رسمية أكدت أن نحو 60.3% من النساء القرويات النشيطات يعملن كمساعدات عائليات، في الغالب من دون مقابل مادي.
وهذا الرقم الصادم يكشف بوضوح أن فئة واسعة من النساء تعيش على هامش التنمية، في ظل ظروف قاسية تُغيّب جهودهن اقتصادياً وقانونياً. فهذه الفئة النسائية، رغم ما تبذله من جهد هائل، تجد نفسها كأنها غير مرئية أمام مؤسسات الدولة.
تقول فاطمة لـ "النهار" بحسرة وهي تحاول إخفاء دمعةٍ عالقة: "أعمل منذ كنت صغيرة، لم أعرف سوى التعب، ولا نرى نتائج تعبنا في حياتنا أو في مستقبل أطفالنا".
وتفتح هذه المعطيات من جديد أبواب مناقشة ملتهبة حول الواقع المرير الذي تعيشه نساء في بعض قرى المغرب.
ففي ظلال الجبال وأعماق القرى المنسية، هناك آلاف النساء، مثل فاطمة، اللائي يبذلن جهوداً جبارة من أجل دعم الاقتصاد المحلي، من الزراعة إلى رعاية الماشية، لكنهن رغم ذلك يبقين خارج إطار الحقوق الرسمية ومنظومة العمل القانوني.
قصة نعيمة، وهي شابة في العشرينيات، تكشف جانباً آخر من هذه المعاناة. فهي تسكن قرية في منطقة الحوز، المنطقة التي أصابها أخيراً زلزال مدمر قرب مراكش، وتحمل شهادة الثانوية العامة، لكنها تقبع في دوامة الفراغ القاتل.
تصف نعيمة بعيون مفعمة بالحزن واقعها لـ"النهار" قائلة: "عندما حصلت على شهادة الثانوية، ظننتُ أنني على أبواب حياة جديدة لكني اصطدمت بواقع أقسى بكثير. هنا لا توجد فرص للعمل، ولا مراكز تدريب مهني يمكن أن تمنحنا بصيص أمل. معظم فتيات قريتنا مثلي تماماً. حلمنا بسيط وهو فقط الحصول على فرصة حقيقية لتحسين أوضاعنا".
كلمات نعيمة المريرة تجد سنداً قوياً في الأرقام الرسمية، التي تبرز خطورة هذا الواقع المُظلم، إذ تؤكد الإحصاءات الرسمية أن 61.8% من الشابات القرويات في الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاماً لا يدرسن ولا يعملن ولا يتلقين أي تدريب فئة NEET، وهي نسبة تعد الأعلى في البلاد.
ويصل معدل البطالة بين الشابات القرويات اللواتي حصلن على مؤهلات دراسية عالية إلى 38%، ما يعكس فجوة بين التعليم ومتطلبات سوق العمل، ويُظهر ضعف الاستثمار في طاقات نسائية شابة بإمكانها تغيير وجه هذه المناطق المهمشة.
غياب سياسات ناجعة
وفي خضم هذا الواقع الصعب، تعلق الباحثة الاجتماعية الدكتورة حياة الراضي لـ"النهار"، مشددة على أن "السبب الرئيسي وراء هذه الفجوة الكبيرة يتمثل في غياب سياسات واضح في ما خص التعليم والتكوين الموجه للفتيات القرويات''.
وتؤكد أن "هناك تقصيراً في فهم خصوصية المناطق القروية وحاجات النساء فيها. فالمشاريع والخطط التي توضع في المدن لا تناسب دائماً واقع القرى المعزولة".
وتعتبر أن "الشعارات حول المساواة والتمكين تتردد في المؤتمرات والمناسبات الرسمية، من دون أن تترجم إلى برامج فعلية ملموسة تُغير واقع هؤلاء النساء وتمنحهن فرصاً حقيقية لتحقيق ذواتهن والمساهمة الفعالة في التنمية".
ورغم أن نسبة تشغيل النساء في الأرياف (21.9%) تبدو أعلى من المدن (13.7%)، فإن هذه النسبة تخفي أموراً أخرى.
وتروي زهور لـ"النهار": "أعمل في الزراعة وتربية المواشي. لا أتقاضى أجراً لأنني أساعد زوجي فقط. ولو فكرت يوماً في المطالبة بحقي، قد أتعرّض لمشاكل مع العائلة. نحن محاصرات بين تقاليد المجتمع وتجاهل الحكومة".
وتقول زهور بحسرة: "نعيش في الظل، والحديث عن المساواة وتمكين المرأة يبقى مجرد كلام فارغ ما لم يصل إلى قلوب هذه القرى المهمشة".
أكلاف باهظة للتهميش
ومن زاوية أخرى لا تقل أهمية، فإن التهميش الاقتصادي للنساء القرويات لا ينعكس على حياتهن الفردية فحسب، إنما أيضاً يمتد أثره السلبي إلى بنية الاقتصاد الوطني برمّته.
فوفقاً لدراسة رسمية حديثة، يكلّف هذا التهميش المغرب خسائر سنوية تقدر بـ2.2% من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة ثقيلة تُشكل نزفاً مستمراً كان بالإمكان تجنبه لو تم استثمار هذه الطاقات النسائية بشكل عقلاني ومنصف.
وفي تعليقها على هذا المعطى المقلق، توضح فاطمة الزهراء بوهلال، الخبيرة في الاقتصاد الاجتماعي، لـ"النهار"، أن "هذه الخسارة ليست مجرد رقم مالي عابر، بل هي مؤشر عميق إلى الاختلال البنيوي في نموذجنا التنموي".
وتشرح أن استمرار تهميش النساء القرويات هو بمثابة تعطيل مُمنهج لإمكانات كبيرة قادرة على المساهمة في النمو وتحقيق التوازن الاجتماعي والمجالي".
وتقول:"نحن نتحدث عن آلاف النساء القادرات على خلق قيمة مضافة في مجالات الزراعة والصناعة التقليدية والخدمات".
وتضيف بوهلال بنبرة حازمة: "إذا أرادت الحكومة فعلاً أن تضع أسس اقتصاد قوي وشامل، فعليها أن تلتفت إلى هذه الفئة، لأن إدماج النساء القرويات في الدورة الاقتصادية لا يعني تحسين دخلهن فحسب، بل هو رهان استراتيجي على العدالة المجالية والاجتماعية، وعلى تعزيز مناعة الاقتصاد الوطني في وجه الأزمات. نحن لا نتحدث عن امتيازات، بل عن حق بسيط في الاعتراف والمشاركة. وسيتغيّر وجه الاقتصاد المغربي جذرياً لو فُعّلت برامج موجهة حقيقية، قادرة على كسر الحواجز البنيوية والثقافية، وفتح المجال أمام هذه الطاقات كي تساهم كما تستحق في تنمية الوطن".
تحولات اجتماعية صامتة
من المعطيات التي وصفت بالصادمة في الدراسة ذاتها، التي اطلعت عليها "النهار"، تبرز ملامح تحولات اجتماعية صامتة، ولكن عميقة تترجمها أرقام ارتفاع معدل الخصوبة لدى النساء القرويات إلى 2.37، في مقابل انخفاض ملحوظ في سن الزواج الأول، وتزايد نسبة العزوبة في صفوف النساء بعد سن الخمسين، إذ أن تحولات كهذه تعكس تغيرات بنيوية في نمط العيش والأسرة، ما يستوجب تنبهاً عاجلاً من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
وتوضح نادية مزوار، أستاذة علم النفس الاجتماعي، لـ"النهار"، أن هذه المؤشرات لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحولات الثقافية والاقتصادية التي تعرفها المجتمعات القروية.
وترى أن "غياب سياسات عمومية تراعي هذه التغيرات سيؤدي لا محالة إلى تراكم أزمات اجتماعية ونفسية على المدى الطويل. فالمرأة القروية اليوم لم تعد أماً أو زوجة فحسب، إنماً أصبحت أيضاً عنصراً فعالاً في الاقتصاد المنزلي والمجتمعي، من دون أن يتم تأطير هذا التغير في أدوارها الاجتماعية داخل بنية مؤسساتية تستوعب هذا التحول وتدعمه".
وتتابع: "النساء يعشن تحت ضغط متزايد، بين مسؤوليات تقليدية لا تزال تلاحقهن، وتحديات عصرية تفرض نفسها من دون أن تتوفر لهن أدوات المواجهة. وهذا التناقض يولد احتقانات نفسية ومجتمعية، وقد يقود إلى أشكال من الانغلاق، أو حتى العنف الذاتي والاجتماعي، ما لم يتم التدخل بسياسات ذكية وواقعية تعيد التوازن وتحترم خصوصية السياق القروي".
توصيات وأحلام معلقة بين الرفوف
وقد اختتمت الدراسة الرسمية بحزمة من التوصيات التي توزعت بين تحسين البنية التحتية وتسهيل الولوج إلى التعليم والخدمات الصحية، وإنشاء حضانات قروية، وتفعيل برامج ريادة الأعمال النسائية. غير أن هذه التوصيات، على رغم وجاهتها، تصطدم كل مرة بجدار سميك من قصور الموارد المالية.
وفي هذا السياق، تقول ليلى الشاوي، الناشطة الحقوقية والمهتمة بقضايا المرأة القروية، لـ"النهار": "ما تحتاج إليه نساء القرى اليوم ليس مجرد حبر على ورق أو توصيات تزين التقارير الرسمية، بل إلى إرادة سياسية صادقة، وقرارات شجاعة تنتصر للعدالة المجالية والكرامة الإنسانية".
وتضيف بلهجة لا تخلو من الغضب المشروع: "المرأة القروية ليست رقماً في إحصائيات، بل هي العمود الفقري الفعلي لتنمية هذه البلاد. آن الأوان لنتوقف عن التعامل مع نساء القرى كيدٍ عاملة مجانية، ونبدأ بالاعتراف بهن كمواطنات كاملات الحقوق".
ويبقى السؤال معلّقاً بإلحاح: هل تصل أصوات فاطمة ونعيمة وزهور وأخريات إلى دوائر القرار، أم أن تقرير المندوبية السامية للتخطيط سيضاف إلى أرشيف طويل من التقارير الرسمية وغير الرسمية التي وُضعت بعناية فوق الرفوف، ولم يُكتب لها أن تصنع الفرق؟
الجواب لا يزال بيد صناع القرار، لكنه أيضاً في صرخة نساء القرى، اللواتي لم يعدن يقبلن الصمت.