قصة "ماما ماغي" صانعة الأمل: رحلة العطاء في عالم الفقر

بردائها الأبيض الذي يعكس نقاء قلبها، وصليبها الخشبي الذي يتدلى من رقبتها، مشت "ماما ماغي" كما يُناديها الناس، وسط المناطق الاكثر احتياجاً حيث يعيش الأطفال وأسرهم في ظروف قاسية، بنت عالماً أكثر انسانية وحباً. كانت الحياة تشق طريقها بصعوبة بين الخراب والفقر الشديد، ولم يكن طيف الأمل حاضراً هناك، ولكن بعد أن حلّت "ماما ماغي" تغيّر كل شيء.
كثيرون سمعوا بـ"ماما ماغي" أو الـ"أم تريزا المصرية، كما يُلقبها البعض، البعض يعرف قصتها والبعض الآخر لا يعرف سوى القليل. ولكن اليوم سيتعرف الجميع على الوجه الآخر لهذه المرأة، التي أصبحت تُعرف بأيقونة العطاء الإنساني.
من أستاذة في الجامعة وزوجة رجل أعمال إلى امرأة كرست حياتها للعمل الإنساني، انتقلت "ماما ماغي" من عالم الرفاهية والترف إلى عالم الأطفال و العائلات المهمشين والأكثر احتياجاً. تعترف في حديثها الى "النهار" بأن "الإنتقال من هذا العالم إلى العالم الآخر لم يكن مخططاً بل كان استجابة لدعوة داخلية إلهية شعرتُ بها عندما زرتُ حي الزبالين لأول مرة. هناك، رأيتُ الأطفال بأقل الامكانات من المأكل والملبس و الرعاية باحثين عن الأمل ولا يجدوه. في تلك اللحظة، أدركتُ أن حياتي لم تكن كاملة، وأن هناك رسالة تنتظرني، رسالة حب وخدمة".
كان الصوت في داخلها قوياً وواضحاً، لقد أيقنت أنه يستحيل العودة إلى حياتها السابقة، وكأنها لم ترّ ما رأته. كانت صورة أول طفل رأته مطبوعة في قلبها وعقلها، لم تنسَ عينيه الممتلئتين بالأمل ويده التي تُمسك يدها. وتتذكر جيداً كيف شعرت أن قلبه يصرخ لها، لا تتركيني.
تقول في حديثها: "لقد وجدتُ الغنى والكنوز في عالم الحاجة و انعدام الامكانات، ولمستُ الغنى الحقيقي، وعرفتُ أنه من الجوع يوجد الشيع، ومن الألم والمرض يوجد الشفاء. فى حياتي الأولى كنتُ أُحب الأناقة والذوق الرفيع فى كل معاملاتي، لكنني وجدتُ أن الأناقة الحقيقية تكمن في العطاء، التسامح والرحمة".
هذه الزيارة كانت بمثابة تحول جذري في حياتها، رحلة إلى أعماق ذاتها، بحيث أدركت أن السعادة الحقيقية ليست في الثراء أو النجاح المهني، بل هي أعمق من ذلك بكثير، وأبسط من كل شيء. قرار التخلي عن كل شيء لم يكن سهلاً، لكنه كان مدعوماً من عائلتها، التي ساندتها وشجعتها على هذه الرسالة الإنسانية.
في عالم يسوده السعي وراء الثراء والمكانة الاجتماعية، كانت "ماما ماغي" تسلك طريقاً مختلفاً. فقد نشأت في كنف عائلة تقوم مبادئها على الخدمة الإنسانية والعطاء. كان والدها الطبيب الناجح يساعد المرضى المحتاجين، فيما كرست عمّتها حياتها لمساعدة المحتاجين ورعايتهم. كانت بالنسبة إليها أماً روحية، وتأثرت بها بشدة. لكنها لا تُخفي، كما تشير في حديثها، أن "دعم زوجها، وتواضعه، وحنانه، كانت الركيزة الأساسية التي ساعدتها على اتخاذ قرارها تغيير حياة هؤلاء الأطفال. لم أستطع تجاوز صرخات الأطفال ونظراتهم الممتلئة بالأمل والرجاء، ولقد قادني زوجي لاجتياز هذا الطريق".
عندما سألتها عن اللحظات التي أثرت فيها أكثر من غيرها طوال سنوات خدمتها، اعترفت بأن هناك لحظات كثيرة أثرت فيها، "ولكن أكثر اللحظات صعوبة وثقلاً هي عندما أرى طفلاً مريضاً بلا علاج، أو طفلاً جائعاً بلا طعام، أو طفلة تُجبر على ترك التعليم لأن عائلتها لا تستطيع تحمّل أكلافه.
في المقابل، أسعد لحظاتي تكون عندما أرى طفلاً كان فاقداً للأمل أصبح اليوم شاباً ناجحاً يحقق أحلامه بفضل التعليم والدعم الذي حصل عليه. أو أن اشاهد ولداً يائساً في حياته كبر معنا واًصبح رجلاً ناجحاً ورئيس قسم التمريض في أكبر مراكز العلاج. واتأثر كثيراً عندما أتذكر كيف ساعدني عندما مرضتُ وتكفل علاجي من جيبه الخاص. هذه التفاصيل لا يمكن تخطيها، هي قوتي للإستمرار".
تؤمن "ماما ماغي" أن في كل انسان تلتقيه كنزاً إلهياً داخله، في كل شخص بطلٌ ينتظر فرصة لإظهار بطولته. وتشعر أن الله سمح لها بالتعرف إلى هؤلاء الأشخاص لمنحهم الفرصة لإخراج البطل الساكن في داخلهم.
عندما تستمع إلى "ماما ماغي" تشعر أنك تغوص في عالم أبيض، نقيّ، مليء بالرجاء. تجد نفسك تغوص في أفكار عميقة، مجردة من كل شيء. اسألها ما الذي يمنحك القوة للإستمرار رغم كل التحديات التي تواجهينها، فتجيب: "القوة تأتي من الحب، لأن من يحب عمله لا بد من أن ينجح. والحب يعطيك القوة. ومن صلاتي ينبع حبي للناس، لأن الخالق لما وضع نسمة في كل البشر أعطاهم قوة الحب والحياة. أنا أدرك جيداً أن رسالتي ليست ملكي، وإنما هي عمل إلهي، وأستمد قوتي من ضحكات الأطفال وقصص نجاحهم والأمل الذي يكبر في عيونهم".
لديها الكثير لتقوله، هي التي اختبرت مع الأطفال شتى أنواع التجارب والقصص الموجعة والنجاحات الجميلة. ومع ذلك، تدوزن إجاباتها كما حياتها بسلالة وانسياب تامين. وتؤكد أن "أعظم درس تعلمته خلال عملي مع الأطفال هو الشكر في مواجهة الألم، فخلف كل معاناة مكافأة لمن يتحملها برضى وامتنان. يمتلك كل فرد طاقة وقدرة على تحمل الصعاب، مما يجعله أكثر نضجاً وقوة. فالحياة لا تتحقق من خلال الإبداع والاستمتاع فحسب، بل أيضاً من خلال الصبر على المعاناة، التي رغم تحدياتها، تحمل في طياتها معاني العطاء والمحبة".
وفي كل بقعة من العالم، هناك تفاوت بين الغنى المادي والفقر المادي، لكن النجاح الحقيقي وفق "ماما ماجي"، "لا يُقاس بالممتلكات، بل بقدرة الإنسان على تحويل الفقر المادي إلى غنى روحي ونجاح معنوي. فمن يمدّ يد العون للآخرين يكتشف فيهم قوة مذهلة على التحمل والعطاء غير المشروط، وإيماناً عميقاً بأن الله لا يترك أحداً. ورغم قسوة الحياة، تبقى قلوبهم مفعمة بالفرح، لأن النجاح الحقيقي يكمن في اكتشاف الإنسان للكنز الكامن داخله".
يُعرف عن "ماما ماغي" أنها لا تحب الأضواء ولا تعنيها الجوائز، بالنسبة إليها العمل الإنساني أبعد وأعمق من هذه القشرة الخارجية. ومع ذلك، تشدد على أن "كل نجاح هو انتصار للإنسانية بأسرها. فكل جائزة هي بمثابة رسالة تذكير بأن هناك من يرى هذا العمل ويقدّره. هذه الجوائز ليست مجرد تكريم فردي، بل هي إرث مشترك يعود بالنفع على العالم كله، لكل من يعمل بإخلاص. سواء كانت جائزة عن الأمل، مثل "جائزة صناع الأمل"، أو عن الشجاعة أو السلام، التي حصلت عليها، أحب أن أكرر دائماً أن نجاح فرد واحد يعني نجاح الجميع، لأننا جميعاً نشترك في تحقيق الخير ونحتفي بالمبادئ التي ترتقي بالإنسانية".
وراء هذه القوة والإيمان، اختبرت "ماما ماغي" لحظات ضعف خصوصاً عندما شعرت أن رسالتها الإنسانية في خطر. تسترجع تلك الليلة الهادئة، وتقول: "جلستُ أمام مكتبي، غارقة في التفكير، والدموع تنهمر من عينيّ، أتساءل: ماذا فعلت؟ لم يكن لدينا جنيهٌ واحدٌ لنواصل المسيرة، وكأن الأمل بدأ يتلاشى. ولكن فجأة، جاءني خبر تبرعٍ كبير للأطفال، ليذكرني بأن كل عمل يحمل في طياته تحديات، لكن الله قادر على كل شيء".
تعرف "ماما ماغي" في أعماقها كما في حياتها أن لا نجاح من دون الله، ولا فشل مع الله. تكرر ذلك دوماً في يومياتها. وتحاول أن تُعلّم الأطفال أن "وراء كل ليلٍ فجرٌ جديد، ووراء كل تعثرٍ فرصة للنهوض من جديد. فلا تيأس إطلاقاً".
أما للمرأة فتقول: "احلمي، وأحبي حلمكِ، وآمني بأن الأحلام يمكن أن تصبح واقعاً. لا تنتظري الظروف المثالية، بل ابدئي بخطوة صغيرة، وتذكري أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة".
وتعترف بأن لفب "ماما ماغي" هو الأحب إلى قلبها، فهي لا ترى في العطاء تضحية، بل تعتبره ربحاً حقيقياً. أن أكون أماً لكل طفل محتاج، أن أحتضنه بحبي، وأمنحه فرصة ليحيا بكرامة، ليس مجرد اختيار، بل هو رسالتي في الحياة. وأتمنى أن تجد كل امرأة رسالتها في هذه الحياة وأن تُحارب من أجلها وتؤمن بأن لا شيء مستحيلاً، وألا تنسى أن تبحث عن السلام في داخلها لأنها لن تجده في أي مكان في الخارج".