التجسس البحثي يكبل طموحات آلاف الطلاب الأجانب والعرب في العالم... شروط أميركية وتشدد أوروبي والصين أكثر المتضررين
يشتكي طلاب أجانب في دول عدة من الإجراءات الأمنية المشدّدة التي بدأت بفرضها جامعات سويسرية على القادمين من دول "عالية المخاطر"، وهي الدول التي صنّفتها مجموعة العمل المالي "فاتف" بأنّ لديها أوجه ضعف استراتيجية هامة في أنظمتها الخاصة بمواجهة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب وتمويل انتشار التسلّح.
وبحسب القرار الذي نشره المعهد الفدرالي للتكنولوجيا بزيورخ في 24 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، سيتمّ تطبيق إجراءات أمنية مشدّدة على أعضاء هيئة التدريس فيه، بالإضافة إلى فحص المتقدّمين لدرجة الماجستير والدكتوراه من الدول التي تم وضعها على قائمة العقوبات من قبل مجلس الأمن الدولي، والتي اعتمدتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، مثل سويسرا، في تشريعاتها الوطنية لأسباب أمنية.
وتشمل القائمة أيضاً الدول التي تصنفها سويسرا على أنها دول عالية الخطورة، ولا تتوافر فيها الشروط التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بهدف مكافحة التجسّس البحثي، وهي: أفغانستان وبيلاروسيا والصين وهايتي وإيران والعراق وكمبوديا والكونغو وكوبا ولبنان وسوريا وليبيا وميانمار وكوريا الشمالية وباكستان وروسيا وزيمبابوي والصومال وجنوب السودان والسودان واليمن وفنزويلا وجمهورية أفريقيا الوسطى.
ووفق نص العقوبات الدولية، فإنّ المعهد ملزم بالتقليل إلى أدنى حدّ من مخاطر تدفق التكنولوجيا والمعرفة المناسبة للاستخدام العسكري إلى البلدان الخاضعة للعقوبات الدولية.
ورغم أن الدول المذكورة كثيرة، فإن أكثر الدول تضرّراً هي الصين، إذ تمت تسمية ما مجموعه 17 جامعة ومؤسسة بحثية صينية، كما أعلنت العديد من المدارس في الدول الغربية تعليق مشاريع جامعية مشتركة مع الصين.
أربعة معايير
يعتمد الفحص الأمني للمعهد على أربعة معايير:
هل البلد الأصلي لمقدّم الطلب (تؤخذ في الاعتبار الجنسية ومكان الإقامة والسيرة الذاتية) "بلد خطر"؟
هل سبق للمتقدّم أن درس في مؤسسة تشكّل خطراً أمنياً؟
هل سيحصل مقدّم الطلب على التمويل من خلال منحة دراسية من دولة خاضعة للعقوبات، أو من مصادر غير مناسبة أو مشكوك فيها؟
هل يخضع مجال الدراسة لإشراف رسميّ متزايد أم أنه يقع ضمن لوائح مراقبة الصادرات للسلع ذات الاستخدام المزدوج؟
المعهد الفدرالي السويسري
يشرح موظف في إحدى الجامعات السويسرية -طلب عدم ذكر اسمه- لـ"النهار" هذه الإجراءات، التي أبلغتهم بها الجامعة أخيراً، وهي اشتراط الجامعات حالياً الحصول على مزيد من المعلومات الشخصية والعائلية من الطلاب القادمين من دول خاضعة للعقوبات أو عالية المخاطر.
وتفرض بعض التخصّصات والمختبرات العلمية متطلّبات قبول وتعاون بحثيّ أكثر صرامة خوفاً من "التجسس البحثي"، وذلك بموجب ضوابط الأمن القومي. تعكس هذه الإجراءات توجّهاً دولياً نحو زيادة اليقظة؛ ومع ذلك، فإنها تثير مخاوف بشأن احتمال التمييز العنصري وتقييد التبادل العلمي.
كذلك، يتخوف المتخصصون من زيادة مراقبة أنشطة أولئك الطلاب خلال فترة دراستهم، وهو أمر غير واضح حتى الآن بحسب الموظف، لكنه "غير مستبعد". فإذا تمّ قبول طالب دكتوراه من الصين مثلاً، فقد تفرض عليه قيود أكثر من غيره، بما قد يشمل منعه من الإفادة من بعض التسهيلات.
معاناة إضافية للطلاب
"التجسس البحثي هو الاستحواذ السريّ أو غير القانونيّ على المعارف العلمية أو التقنية أو الأكاديمية الحسّاسة"، يقول الموظف، وفي أغلب الأحيان يشمل مجالات تقنية متقدّمة ذات تطبيقات اقتصادية أو عسكرية محتملة.
وقد يلجأ المنفّذون إلى تهديدات داخلية أو هجمات إلكترونية أو استغلال المشاريع التعاونية للوصول غير المصرّح به إلى الأسرار التجارية أو براءات الاختراع أو الأبحاث المتطورة. ويمكن أن تكون الدوافع اقتصادية (تقصير دورات التطوير أو اكتساب هيمنة في الأسواق) أو استراتيجية (تعزيز القدرات العسكرية أو كسب نفوذ سياسي). وتشمل العواقب خسائر مالية وتعريض الأمن القومي للخطر وإلحاق الضرر بسمعة المؤسسات، مما يدفع إلى اتخاذ تدابير مثل تشديد ضوابط الوصول وتعزيز الدفاعات الإلكترونية والامتثال للوائح التصدير.
ويفصّل الموظف معاناة الطلاب القادمين من هذه الدول والراغبين في الالتحاق بالجامعات السويسرية، حيث سيواجهون إجراءات أكثر صرامة، مثل استبيانات مفصّلة عن خلفياتهم الشخصية والعائلية، بالإضافة إلى قيود محتملة على الوصول إلى مجالات البحث الحسّاسة وخضوعهم لمتابعة مستمرة عبر فحوصات الامتثال ومحدودية الدخول إلى المختبرات.
ويقول: "بينما تؤكد السلطات السويسرية أهمية حماية الأبحاث من التجسّس، قد تؤدي هذه التدابير إلى إطالة عملية القبول أو رفضها بالكامل، وإثارة مخاوف تتعلق بالخصوصية، وخلق عوائق أمام المشاركة الكاملة في الأبحاث المتطورة. وعلى المدى الطويل، يمكن أن تؤدي هذه الرقابة المكثفة إلى عزوف بعض الطلاب الأكفاء عن التقديم، ممّا يحدُّ من التنوّع والقوة في فرق البحث ويقوِّض سمعة سويسرا في الانفتاح والابتكار الأكاديمي والعلمي".
الأبعاد والإجراءات القانونية
ماذا عن مدى قانونية هذه الإجراءات؟
يجيب المحامي والمهتم بالشؤون الدولية، إبراهيم شبارو، بأن السند القانوني متحقق إلى حدّ ما لدعم مثل هذه الإجراءات، التي تتبعها الولايات المتحدة عادة مع خصومها، انطلاقاً من نقاط أساسية هي مكافحة مصادر "الخطر" عليها وعلى حلفائها، كالمسائل النووية والكيميائية وغيرها، أو أيّ خطر يهدّد تفوّقها في مجال معيّن.
وعن سبب تفعيل هذه الإجراءات مجدّداً، بالرغم من أن بعض هذه الدول عليها عقوبات منذ سنوات، يشرح شبارو لـ"النهار" بأن الرئيس الأميركي جو بايدن أقرّ قبل انتهاء ولايته الرئاسيّة إجراءات جديدة تقضي بمنع تصدير كلّ التكنولوجيا والرقائق المتعلقة بالذكاء الاصطناعي إلى الصين وحلفائها وكلّ دولة مناوئة لمصالح الولايات المتحدة، أو غير مضمونة من الناحية الاستخباراتية، فيما حدّدت الإجراءات دولاً معينة يسمح لأميركا بتصدير هذه التكنولوجيا إليها، كدول الاتحاد الأوروبي والدول الحليفة بشكل دائم، وهو ما ينطبق أيضاً على العمل في المجال النووي كي لا يتم تدريب أشخاص على التخصيب والعودة لتدريب كوادر أخرى وخدمة البلد "غير الصديق"، مستندة إلى الاتفاقية الدولية للحدّ من انتشار السلاح النووي.
بالتالي، ينعكس هذا الأمر على "الدول الصديقة للولايات المتحدة التي تتجه أيضاً لتنفيذ إجراءات وقائية. فقبل أن تنتهي ولاية بايدن، أعطى مهلة 120 يوماً لتنفيذ هذه الإجراءات التي تركّز على التشدّد في موضوع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت في العالم تعادل المخاطر النووية، خصوصاً بعد إطلاق الصين تطبيق ديبسيك، المنافس الشرس لتطبيق "تشات جي بي تي" الأميركي".
ويضيف: "تبدأ الدول هنا بطلب استخباراتي إلى الجامعات، التي تدرّس هذه الاختصاصات، بشأن عدد الطلاب أو الموظفين المعنيين بها، وقد ينتهي الأمر برفض الطلب كلياً لمن يأتي من دول مصنّفة عالية المخاطر، وهو ما يعتبر تمييزاً".
الطلاب الصينيون الأكثر تأثراً
تفيد "بلومبرغ" بأن هذا الموضوع تمّت مناقشته في داخل المعهد الفدرالي في زيوريخ منذ العام الماضي على الأقل، عندما أصدر تقريراً بحثياً يوضح بأنه نظراً إلى العدد الكبير من الطلاب الأجانب وتوجّهه الدولي، فهو عرضة للتجسّس.
وسيؤثر هذا التغيير على المتقدّمين من الدول التي تخضع لعقوبات دولية مثل إيران وأفغانستان وروسيا. ومع ذلك، فإن الأشخاص الأكثر تضرّراً سيكونون المواطنين الصينيين في المعهد، إذ التحق به أكثر من 1300 طالب صينيّ منذ عام 2023، وهو ضعف العدد المسجّل في عام 2018.
وليست سويسرا وحدها هي التي تنفذ مثل هذه الإجراءات. فقد أدت هذه السياسة إلى تأثير متسلسل على الطلاب في الصين، إذ قامت الولايات المتحدة أيضاً بتقييد عدد الطلاب الصينيين الذين يمكنهم التقدّم لبرامج الدراسات العليا في العلوم، وطلبت من هولندا أيضاً تقليل عدد الطلاب الصينيين، لكونها دولة تؤدي دوراً رئيسياً في سلسلة توريد الرقائق العالمية.
هذا الأمر أثار جدلاً واسعاً عبر مواقع التواصل في الصين، فقد أعرب طلاب عن امتعاضهم بعدما كانوا ينوون الاستقرار في أوروبا لمتابعة الدراسات العليا في اختصاصات موجودة في الصين، ولكنها أقلّ تطوراً.
لا شكاوى في العراق
"حتى الآن لم نتلقَّ أي شكاوى من طلاب عراقيين في الدول التي بدأت بتطبيق هذا الإجراء"، يؤكّد عضو لجنة التربية النيابية العراقية فراس المسلماوي لـ"النهار".
ويقول: "اللجنة تقوم بزيارات ميدانية إلى مختلف الجامعات العالمية لتفقّد أحوال الطلاب ومعالجة مشاكلهم، فإن وصلت شكوى من هذا النوع، نخضعها للفحص، ونقوم بجهود لمعالجتها". ويلفت إلى أن "العراق يتبع منهجية جديدة في ما يخص التعليم في الخارج، وهي أكثر انفتاحاً على التعاون مع مختلف الدول بما يدعم مصلحة الطلبة العراقيين".
لا إجابات من لبنان وسوريا
حاولت "النهار" التواصل مع وزارة الخارجية اللبنانية لمعرفة ما إذا كانت تلقّت شكاوى في هذا المجال، إلا أننا لم نتلقّ أيّ جواب.
وفي سوريا، حالت الظروف الراهنة بعد أسابيع من سقوط النظام السابق دون إمكانية الحصول على جواب بشأن الطلاب السوريين ومعاناتهم في هذه المجال.
وتهدف معظم الإجراءات الأميركية الجديدة لوضع حدّ أقصى لعدد الرقائق التي يمكن تصديرها إلى معظم البلدان، والتي تسمح بالوصول غير المحدود إلى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأميركية لأقرب حلفاء واشنطن، مع الإبقاء أيضاً على حظر الصادرات إلى الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وحلفاء هذه الدول.
نبض