الفضة تكسر قبتها الزجاجية: صعودٌ خاطف بين ظلال هانت وضيق لندن

اخترقت الفضة القمة التي خلّدتها دراما الأخوين هانت، لكن هذه المرّة لم يحتكر أحد السوق؛ الذي ضاق ليعكس ميزان السيولة. لندن تلهث، علاوة السعر تتّسع، وعمليات تغطية الشورت تتحول إلى وقودٍ سريع للاشتعال.
لندن تضيق… والجسر الجويّ إلى وول ستريت
صباح الثلاثاء، فتحت الشاشات على مشهدٍ غير مألوف: السبريد بين لندن ونيويورك يتّسع بما يكفي ليبرر حجز مساحةٍ على رحلاتٍ عبر الأطلسي لنقل سبائك بسرعة. هذا ليس استعراضاً لوجستياً؛ إنه تحكيمٌ قاسٍ على سيولةٍ أشدّ قسوة. حين تصبح علاوة لندن على الكومكس أكثر من دولار ونصف للأونصة وتنكمش من $3 كانت عليها قبل أيام، فأنت أمام بركانٍ ينفث ضغطه في كل دقيقة. ليس غريباً إذن أن يُفتح الباب لاجتياز القمة التاريخية التي ظلّت صلدة منذ 1980.
صراع السيولة: من يملك الأونصة يملك الزمام
الفضة لا ترتفع لأن الحكاية جميلة؛ ترتفع لأن المعروض الحرّ في لندن انكمش. قفزة سعر الاستعارة لشهر إلى ما فوق 30% تعني ببساطة أنّ:
1.من يقترض الفضة لتجديد مراكزه القصيرة يدفع ثمناً باهظاً.
2.من يحتفظ بالسبائك يمتلك خيارات التوقيت—يبيع متى شاء وبالسعر الذي يفرضه اختناقُ السوق.
هذه ليست “مؤامرة” على طريقة هانت، بل فيزياء أساسيات: مخزونات متاحة أقل، طلب تحوّطي أعلى، وفجوةٌ بين الأسواق تُغري بمزيدٍ من السحب الفعلي للسبائك.
دوّامة الشورت: كيف يتحول التحوّط إلى شعلة
حينما يصبح تأمين المركز القصير مكلفاً إلى هذا الحد، يتحوّل التحوّط نفسه إلى مسرّعٍ للسعر. كل تغطيةٍ تُنجَز تقتطع شرارةً من السوق وتضيف حرارةً إلى القفزة التالية. ومع صِغَر سوق الفضة مقارنةً بالذهب—حجمٌ يقارب تسع السوق الذهبية—تتضاعف الحساسية: عقدٌ واحد في “ورق” الفضة يمكن أن يُترجم إلى حركةٍ أكبر بكثير في السعر الفوري، خصوصاً حين يُصرّ المشاركون على التسليم الفعلي وليس التسوية النقدية.
الطلب المزدوج: ملاذٌ مالي بوجهٍ صناعي
فضة 2025 ليست فضة 1980. اليوم، الطلب ليس مضاربةً صرفة؛ إنه طلبٌ مزدوج:
-مالي/تحوّطي: تسارع المشتريات على خلفية توترات التجارة، نقاش استقلال الفدرالي، مخاطر إغلاق حكومي، وتيسيرٍ نقدي متدرّج في الولايات المتحدة.
-صناعي/دوري: طاقة شمسية، إلكترونيات دقيقة، ومكوّنات مركبات كهربائية. ومع طفرة البنية التحتية للطاقة ومراكز البيانات، يرتفع وزن الفضة في دورة كهربائية–رقمية أطول أمداً.
هذا المزيج يجعل كل هزّة سيولة تضرب السعر مضاعفاً: مستثمر الملاذ لا يتنازل بسهولة، والمشتري الصناعي يقتنص أي فجوة في المعروض.
لماذا تختلف الفضة عن الذهب؟
الفارق الجوهري أنّ الفضة بلا “مشتر أخير” من البنوك المركزية. الذهب يحظى بدعمٍ واضح من احتياطات رسمية وتدفّقات صناديق واستفادة من خفض الفائدة. الفضة—رغم ملاحقتها الذهب صعوداً—لا تنال هذا “الدرع” الرسمي. النتيجة؟ تقلب أعلى. أي انسحابٍ موقت في تدفقات الصناديق أو تبدّل في شهية المخاطرة قد يولّد تصحيحاً أكبر من حجمه. هكذا تُقرأ تحذيرات السوق: قوةٌ كامنة، لكن من دون شبكة أمانٍ سيادية.
لندن مقابل نيويورك: حينما ينطق الأساس
العلاوة بين لندن والكومكس ليست هامشاً تجميلياً؛ إنها ترمومتر الاختناق. علاوةٌ عند $1.75 بعدما لامست $3 تُخبرك أنّ الطوابير على التسليم الفعلي لم تنته، لكنها بدأت تتنفّس. وكلّما اتّسعت هذه الفجوة، تعاظمت حوافز التحكيم المادي (نقل السبائك، لا تدوير الورق)، فتنتقل الفجوة من الشاشة إلى الطائرة، ومن الطائرة إلى الميزان.
سياسة المعادن: شبح 232 يمرّ من هنا
بينما تتكوّم شرارات السوق، يمرّ ملفٌ ثقيل: تحقيق 232 حول المعادن الحرجة (ومنها الفضة والبلاتين والبلاديوم). أيّ قيودٍ أو رسومٍ على سلاسل التوريد قد تُعيد توزيع التدفقات وتضغط على المعروض الحرّ في مراكز المقاصة. لا أحد يُسعّر سيناريوات قصوى على أنها قاعدة، لكنّ السوق في وضع قابِل للاشتعال: صدمة تنظيمية صغيرة كافية لإشعال جولة جديدة من الشورت سْكويز.
أهداف الأسعار: ما بين عجزٍ بنيويّ وفائدةٍ هابطة
تقديرات بيتٍ كبير رفعت مستهدف 2026 إلى 65$ للأونصة، مستندةً إلى ثلاث ركائز: عجزٌ في الميزان المادي، عجوزات مالية تعيد تشكيل منحنى الفائدة، وانحدار كلفة التمويل مع دورة خفضٍ تدريجية. على المدى القصير، هذه الركائز لا تعني خطاً مستقيماً؛ بل ممرّاً متعرّجاً تُسيّره فواصل السيولة ومطبات التحوّط. لكنّ المهم أنّ قاع التقييم يرتفع مع كل تشديدٍ في سوق لندن.
ماذا عن الأخوين هانت؟ الصدى لا النسخة
القياس سهل والإسقاط مغرٍ. لكن الفارق جوهري: ما نراه اليوم أقرب إلى “سْكويز سيولة/أساس” في سوقٍ منضبطة قواعدها وموزّعة مخاطرها بين مراكزٍ ومقاصّات عالمية، لا محاولة “استحواذ” فردية على زوايا العرض. ومع ذلك، الذاكرة الجمعية للسوق تفعل فعلها: كل اختناقٍ يوقظ أشباح 1980، وكل قفزةٍ تُغري بروايةٍ كبرى. الحقيقة أبسط: الفضة صغيرة بما يكفي لتقسو عليها أي فجوة توريد، وكبيرة بما يكفي لتجذب كل رأس مالٍ يبحث عن ملاذٍ بحسٍّ صناعي.
الأخوان هانت و"الخميس الفضي"
في أواخر السبعينات، ومع تضخّمٍ جامح وضعفٍ في الدولار بعد صدمات النفط، قرّر الأخوان نيلسون بَنكر وويليام هربرت هانت تحويل جبلٍ من الثروة النفطية إلى فضةٍ مادية وعقود آجلة. بين 1978 وبداية 1980 قفز السعر من حوالى 6 دولارات إلى مشارف 50 دولاراً للأونصة، فيما راكمت عائلة هانت سبائك وشهادات خزن وتعهدات تسليم قُدِّرت—وفق تقديراتٍ متداولة آنذاك—بجزءٍ معتبر من المعروض الحرّ القابل للتسليم عالمياً. لكن الرافعة المالية كانت الكعبَ الأخيل: رفعت البورصات متطلبات الهامش وفرضت تداوُلاً بالاتجاه الواحد (Liquidation Only) على عقود الفضة في يناير 1980، فانقلبت الطاولة.
في 27 آذار /مارس1980—«الخميس الفضي»—انهار السعر إلى ما دون 15 دولاراً واستمر بالموجة الهابطة مع عجز الهانت عن تلبية نداءات الهامش، وتدخّلَت بنوكٌ لإنقاذ المراكز ومنع عدوى نظامية. خلاصة الدرس القديم الذي لا يشيخ: التكديس بالاقتراض يصنع قمةً أسطورية… لكنه يصنع أيضاً هبوطاً أسطورياً. واليوم، ورغم عمقٍ تنظيميّ وتقنيّ أكبر وتوزّعٍ أوسع للمشاركين، تبقى الفضة سوقاً أصغر من الذهب وأكثر حساسية لاختناقات التسليم—ما يعني أن أصداء 1980 قد تعود كلما اشتدّ شحّ السيولة، حتى لو تغيّر المسرح والممثلون.
خرائط المستثمر: كيف تتعامل مع معدنٍ سريع التقلب؟
القاعدة الأولى: توقيت المخاطرة. في بيئةٍ ترتفع فيها فائدة الاستعارة فوق 30%، لا معنى لمراكزٍ قصيرة بلا حماية صارمة. القاعدة الثانية: طبقات التعرض—تفريقٌ بين الفوري والعقود والصناديق، مع مراعاة فروق الأساس بين لندن ونيويورك. القاعدة الثالثة: القبضة الخفيفة—الفضة تُكافئ من يدير المراكز ككائنٍ حيّ سريع الحركة لا كحجرٍ ثقيل.
أما على أفق 6–12 شهراً، فالصورة معقولة: تذبذبٌ مرتفع داخل مسارٍ صاعد بنيوياً ما دام اختناق لندن قائماً، وتستمر القمم المرحلية إذا بقيت علاوات الأساس مشدودة وفوائد الاستعارة مرتفعة. التصحيح يبقى احتمالاً قائماً—لا سيما إذا هدأت التدفّقات التحوطية—لكن القاع الأعلى يظلّ الفرضية الأقوى طالما أن المعروض الحرّ لم يتعافَ.
الأسواق الأوسع: حين تقود المعادن النفيسة القاطرة
ليس الذهب وحده من يلمع. سلة المعادن النفيسة بأكملها صعدت 55–82% هذا العام، ما يعكس تحوّطاً عريضاً ضدّ سياسات تجارية متقلّبة واستقلالٍ نقديٍّ على المحك ودورة فائدةٍ هابطة تضغط الدولار الحقيقي. هذا السياق يُعطي الفضة “الهواء” الذي تحتاجه للتحرك أبعد من عتبة 50 دولاراً. لكنّه أيضاً يجعلها أكثر حساسية لأي انقلابٍ مفاجئ في شهية المخاطرة العالمية.
قمةٌ تُكتب بالحبر الساخن
ما حدث ليس نهاية القصة؛ إنه عنوانٌ أول. الفضة التي كسرت القِمّة تُفاوض الآن على سعر سيولتها قبل أن تُفاوض على سعرها. إن ظلّت لندن ضيّقة، ستبقى كل فجوةٍ جديدة فرصةً لقفزةٍ أخرى. وإن انفكّ الاختناق، قد نرى تصحيحاً يُعيد ترتيب الأوراق بلا أن يبدّد السرد البنيوي. السؤال المُعلّق: هل يمنحها العالم الوقت لتثبت أنها “ذهبٌ صناعيّ” يستحق قِمَماً أعلى… أم يسرقها تصحيحٌ حادّ قبل أن تلتقط أنفاسها؟