من السباق على المال إلى البحث عن الهناء الأسري: الأثرياء يغيّرون بوصلتهم في عالم بطيء النمو

في عالمٍ يشهد تباطؤاً اقتصادياً وتراجعاً في زخم العولمة، تتغير أولويات الأثرياء بوتيرة لافتة. لم تعد الثروة وحدها مقياس النجاح، بل أصبح تحقيق التوازن بين الصحة والعائلة والإنجاز الشخصي هو الهدف الأسمى.
يكشف "تقرير جوليوس باير العالمي للثروة ونمط الحياة 2025" (Julius Baer Global Wealth & Lifestyle Report 2025) أن المفاهيم التقليدية للثراء فقدت بريقها أمام نزعة جديدة تسعى إلى جودة الحياة، لا إلى تضخّم الأرصدة، في حين يُظهِر الاقتصاد العالمي استقراراً هشاً وتراجعاً في التضخم، لكن مع استمرار التحديات مثل ضعف النمو وازدياد الديون والمخاطر الجيوسياسية.
في الشرق الأوسط، وفق تقرير "جوليوس باير"، المصرف السويسري المتخصص في إدارة الثروات والاستثمارات، يعكس المزاج العام لدى الأثرياء مزيجاً من الثقة والانفتاح على التغيير. يقول 58% منهم إنهم أكثر استعداداً لتبني أفكار وتجارب جديدة، في إشارة إلى تحوّل ثقافي يتجاوز مفهوم الرفاهية المادية نحو الابتكار الذهني والاجتماعي. كذلك يرى 55% أنهم يتمتعون بأمان وظيفي، ما يعكس استقراراً اقتصادياً متزايداً تدعمه إصلاحات في قطاعات المال والخدمات والسياحة، وخصوصاً في دول الخليج العربي. مع ذلك، تظل العائلة مركز الاهتمام، إذ يعتبرها 58% منهم أولوية تتقدم على العمل. إنه شرق أوسط يُعيد تعريف الطموح بمزيج من الحداثة والجذور.
أما أوروبا، فتبدو أشد ميلاً إلى الواقعية بعد سنوات من التضخم وأكلاف الطاقة. يضع 62% من أثرياء القارة العجوز الصحة في مقدم أولوياتهم، بينما يعتبر 56% منهم العائلة أهم من المسيرة المهنية، ويفضّل 53% التواصل الإنساني المباشر على التكنولوجيا. تعبّر هذه النسب عن تحوّل عميق نحو "الرفاهية الهادئة"، إذ يحلّ الأثرياء البحث عن الطمأنينة محلّ السباق على الرفاهية المادية، مستفيدين من تراجع التضخّم وتيسير السياسات النقدية الأوروبية.
في آسيا والمحيط الهادئ، المنطقة التي تشهد أسرع نمو في عدد الأثرياء عالمياً، يتجسّد التوجه نحو "الصحة كاستثمار": يهتم 60% من الأثرياء بصحتهم، ويتخذ 60% خطوات لتحسين صحة أفراد عائلاتهم، فيما يسعى 58% إلى حياة أكثر نشاطاً. وبينما يعاني الاقتصاد الآسيوي من تباطؤ النمو وتراجع الصادرات في الصين، تعبّر هذه النزعة نحو الاهتمام بالنفس عن رغبة في الاستدامة الشخصية، في مقابل هشاشة الأسواق والديون المتزايدة.
في أميركا الشمالية، تتراجع هيمنة العمل لصالح المتعة والروابط الإنسانية، فيرى نصف الأثرياء أن العائلة تتفوق على المسار المهني، فيما يجد العدد نفسه المتعة في الطعام والسفر، ويعبّر 45% عن شغفهم باكتشاف الثقافات. يأتي هذا التحول في سياق اقتصادي يعاني من تباطؤ النمو وارتفاع أكلاف الاقتراض، ما يدفع كثيرين إلى إعادة تقييم معنى "النجاح"، بعيداً من ضغوط السوق والعمل.
أما أميركا اللاتينية، التي تواجه تباطؤاً في النمو وتراجعاً في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فيغلب على أثريائها التركيز على الصحة والعائلة. يسعى 60% منهم إلى تحسين صحة أفراد عائلاتهم، ويهتم 52% بالرفاهية الشخصية، فيما يعتبر 53% التجارب الغذائية متعة أساسية. وفي قارة مثقلة بالديون وتفاوت الدخل، يبدو هذا الميل إلى البساطة شكلاً من المقاومة الهادئة للفوضى الاقتصادية.
تجمع هذه الاتجاهات بين مشترك عالمي هو إعادة تعريف الثراء. فبعد عقود من التنافس على اقتناء الكماليات، يتجه الأثرياء اليوم نحو ما يسميه التقرير "الترف الهادئ"، أي استثمار الوقت في الذات والعائلة والصحة بدلاً من استثمار المال في المقتنيات البراقة. ومع تراجع الطلب على السلع الفاخرة وازدهار الإنفاق على التجارب والسفر والصحة، يظهر أن الثراء يُقَاس اليوم بقدرة الإنسان على عيش حياة متوازنة ومستقرة، لا بعدد السيارات أو العقارات الممتلكة.
لا ينفصل هذا التحوّل عن المشهد الاقتصادي العالمي الذي يرسمه صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة. يشهد العالم في 2025 نمواً بطيئاً يقلّ عن متوسط ما قبل الجائحة، وتراجعاً في الاستثمار، وتزايداً في الديون، فيما تبقى المخاطر الجيوسياسية والبيئية حاضرة بقوة. مع ذلك، يتيح تراجع التضخم وتخفيف السياسات النقدية فرصة لإعادة صوغ الأولويات، ليس على مستوى الحكومات فحسب، بل أيضاً على مستوى الأفراد الأكثر ثراءً، الذين باتوا يرون أن الثروة الحقيقية تبدأ من الجسم السليم والعائلة المستقرة والعقل الهادئ.