التعريفات التجارية وإرث ترامب: كيف أعادت صوغ الاقتصاد الأميركي وهل من انعكاسات قريبة على أسعار الذهب؟

أعاد الخطاب الأخير لرئيس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي جيروم باول في 23 أيلول/سبتمبر تسليط الضوء على التوازن الدقيق الذي يسعى إليه الفيديرالي بين السيطرة على التضخم ودعم النمو الاقتصادي في ظل تباطؤ سوق العمل. لكن قراءة البيانات الاقتصادية الأميركية اليوم لا تكتمل من دون العودة إلى الإرث الذي خلّفته سياسات الرئيس دونالد ترامب، وعلى رأسها التعريفات الجمركية التي قلبت موازين التجارة العالمية وأعادت تشكيل العلاقة بين النمو، الاستثمار، والتضخم في الولايات المتحدة.
هذه السياسات أدت إلى ارتفاع تكاليف الواردات بشكل مباشر، لترتفع أسعار السلع المستوردة، سواء أكانت نهائية أم وسيطة، ما انعكس على المستهلك الأميركي وزاد من الأعباء المعيشية. التضخم الذي كان يُفترض أن يكون موقتا بفعل هذه الرسوم بات مهددا بالتحول إلى ضغوط طويلة الأمد، إذا استمرت الشركات في تمرير التكاليف أو رفع الأجور. إلى جانب ذلك، تراجعت الاستثمارات في قطاعات عدة نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وتقلّص هوامش الربح، وهو ما دفع الشركات إلى تأجيل التوسع أو تقليص مشاريعها. في المقابل، ردّت الدول المتضررة بإجراءات مماثلة أثّرت على الصادرات الأميركية، لتزداد الضغوط على الشركات المصدّرة والوظائف المرتبطة بها.
أما التعريفات التجارية فقد أضعفت القوة الشرائية للأسر الأميركية، وهو ما بدا واضحا في بيانات الاستهلاك خلال النصف الأول من العام، إذ شكّل الإنفاق الاستهلاكي المحرك الأساسي للنمو. وتشير تقديرات مراكز بحثية مثل Yale Budget Lab إلى أن هذه السياسات قد تكلّف الاقتصاد نحو 0.9 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025، مع تأثيرات سلبية قد تمتدّ لسنوات. ورغم أن الرسوم الجمركية وفّرت إيرادات إضافية للحكومة، تظل فاعليتها محدودة أمام تباطؤ النشاط الاقتصادي وتزايد أخطار البطالة.
جيروم باول في خطابه الأخير شدّد على أن الاقتصاد الأميركي ما زال يُظهر بعض المرونة، لكنه يتباطأ بوضوح، فيما يبقى التضخم فوق المستوى المستهدف عند 2%. وأكد أن الفيديرالي سيبقى معتمدا على البيانات لاتخاذ قراراته، مع الاعتراف بأن التحديات الخارجية من تجارة وهجرة وسياسات جيوسياسية لا تزال في طور التشكل، ما يجعل أثرها طويل الأمد غير محسوم بعد. وفي الوقت نفسه، حذّر من ضعف سوق العمل، مؤكداً أن خفض الفائدة كان ضرورياً لدعم النشاط الاقتصادي وتفادي تباطؤ أشد.
لكن الأنظار لا تتجه فقط إلى قرارات الفيديرالي أو بيانات التضخم، بل إلى أسعار الذهب التي أصبحت العنوان الأبرز للمستثمرين. السؤال المطروح اليوم: هل يمكن أن نشهد انعكاسا في أسعار الذهب مع الخطاب المرتقب للرئيس ترامب يوم الأربعاء؟ حتى اللحظة، الذهب يواصل اختراق قمم جديدة وتكوين قيعان صاعدة (Higher Highs & Higher Lows) من دون أن يكسر هيكل الاتجاه الصاعد. ومع هذه الوتيرة، يبدو أن السعر يستهدف مستويات 3840 دولاراً للأونصة على المدى القصير. ومع ذلك، وكما جرت العادة في الأسواق، لا صعود بلا تصحيح، ما يعزز احتمال حدوث انعكاسات سعرية قائمة، قد تظهر بوضوح مع اقتراب عطلة الكريسماس.
البيانات الاقتصادية المقبلة قد لا تكون في مصلحة المزيد من التخفيضات، خصوصاً مع التوقعات بارتفاع التضخم الأساسي (Core CPI)، ما قد يدفع الفيديرالي إلى تبنّي موقف أكثر حياداً، لا متشدداً ولا مفرطاً في التيسير، بل سياسة وسطية تتيح له المناورة. لكنه على الرغم من ذلك، تظل حالة عدم اليقين في الأسواق والسياسات العالمية عاملا داعما للذهب والمعادن الثمينة، ما يرجّح أن تُغلق أسعار الذهب عند مستويات قريبة من ذرواتها التاريخية مع نهاية العام، وهو ما قد يفتح الباب أمام قمم جديدة في عام 2026.
الذهب الى أين؟
من الناحية الفنية، يواصل الذهب تحركاته في مسار صاعد واضح مدعوما بتسجيل قمم وقيعان أعلى من سابقتها. لكن في الوقت نفسه، تظل مستويات الدعم والمقاومة هي العامل الحاسم الذي قد يحدد اتجاه الأسعار في المدى القريب. أول خطوط الدفاع عن المسار الصاعد يتمثل عند مستوى 3725 دولارا للأونصة، وهو ما يُعتبر نقطة محورية إذا تم اختباره. كسر هذا المستوى قد يدفع الذهب للتراجع نحو 3,690 دولارا، وهو دعم ثانٍ يُعتبر أكثر حساسية، وقد يفتح المجال أمام تصحيحات أوسع إذا لم ينجح المشترون في الدفاع عنه.
في المقابل، تبقى الأنظار متجهة نحو مستويات المقاومة القريبة، حيث يُشكّل 3830 دولاراً الهدف الأبرز على المدى القصير، بينما يبرز 3,900 دولار كمستوى مقاومة أقوى قد يُعيد تشكيل موازين السوق إذا تم اختراقه. أما الحاجز النفسي عند 4,000 دولار فيبقى الحدّ الأعلى الذي يجذب الأنظار، إذ قد يفتح تجاوزه الباب أمام قمم تاريخية جديدة ويجذب سيولة مضاعفة من المستثمرين الباحثين عن ملاذ آمن. بناءً على هذه المعطيات، يبقى السيناريو الأقرب هو استمرار الذهب في الصعود طالما حافظ على دعومه الاستراتيجية، بينما أي هبوط تصحيحي يُمكن أن يُفسَّر كفرصة للشراء من القيعان، في إطار مسار عام ما زال صاعدا بقوة. فهل باتت الارتدادات قريبة أم منتظرة لنهاية هذا العام؟
**محللة أسواق مالية تعمل في شركة ACY Securities Mena