قرار تقني بأبعاد اقتصادية: "غوغل" تعيد سوريا إلى منصتها الإعلانية

بعد أكثر من عشرين عاماً من العزلة الرقمية، أزاحت شركة "غوغل" الستار عن قرار لافت بإزالة سوريا من قائمة عقوبات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC)، مما يعني فعليًا استئناف خدماتها الإعلانية داخل البلاد، لأول مرة منذ عام 2004.
القرار، الذي لم يأتِ في سياق إعلان سياسي أو تفاهم دبلوماسي، يعكس تغيّرًا في مقاربة الشركات التكنولوجية تجاه السوق السوري، ويطرح في الوقت نفسه أسئلة جوهرية حول مدى استعداد البنية الرقمية والاقتصادية في سوريا لالتقاط هذه الإشارة.
إزالة القيود وفتح قنوات التسويق
بحسب تحديث "غوغل" الرسمي، فإن السياسة الجديدة تشمل منصات إعلانية متعددة، وسيتم تحديث متطلبات الإعلانات ومحتوى مركز المساعدة ليتماشى مع رفع اسم سوريا من قوائم العقوبات. القرار، كما وصفته الشركة، يمثل تطوراً مهماً في مشهد التسويق الرقمي بالشرق الأوسط.
لكن العودة لن تكون تلقائية. إذ أوضحت "غوغل" أن المستخدمين المتأثرين سابقاً بالعقوبات سيتعين عليهم استعادة حساباتهم عبر إجراءات تحقق معيارية، وإجراء مراجعة يدوية للحسابات المعلّقة.
فرص رقمية وسط قيود بنيوية
مع تقديرات بوصول عدد السكان في سوريا إلى 22 مليون نسمة، ونسبة انتشار للإنترنت تقارب 34%، ترى "غوغل" أن السوق المحلي يملك مقومات تتيح فرصاً للإعلانات عبر الهاتف المحمول، خصوصًا مع انتشار الهواتف الذكية في الحياة اليومية، رغم المصاعب الاقتصادية.
الشركة أشارت كذلك إلى أن المعلنين بات بإمكانهم استهداف سوريا جغرافيًا، شرط الالتزام بسياساتها العالمية الصارمة. حيث ستخضع الحملات الإعلانية لرقابة آلية مكثفة، لرصد أي انتهاك.
في حديث مع "النهار"، رأى الدكتور جلال قناص، أستاذ الاقتصاد في جامعة قطر، أن قرار غوغل "يتجاوز البعد التقني، ويمثّل إشارة اقتصادية مهمة قد تساهم في تخفيف العزلة المفروضة على الاقتصاد السوري".
"إنه ليس فقط رفعا لحظر رقمي، بل نافذة مؤقتة لالتقاط الأنفاس، مشروطة بمدى التزام البيئة الرقمية في سوريا بمبادئ الامتثال والشفافية"، يقول قناص.
ويوضح أن العودة ستكون تدريجية لا شاملة، نظرًا لاستمرار إدراج كيانات وأفراد على قوائم العقوبات الخاصة، ما يستوجب التدقيق في كل عملية إنفاق رقمي أو دخل إعلاني.
ويتابع قناص:
"قطاع الإعلان الرقمي وصناعة المحتوى في سوريا حُرما طويلاً من أدوات عالمية، واضطرا إلى استخدام قنوات غير رسمية أثّرت على سمعتهما. اليوم، يُعاد فتح الباب أمام تحسين جودة المحتوى، تنشيط الطلب المحلي والعالمي، وخلق فرص عمل في التحليل والتسويق الرقمي".
ويشير إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة ستكون أول المستفيدين من قنوات تسويق منخفضة الكلفة قد تمكّنها من اختراق أسواق جديدة، في وقت تسعى فيه سوريا للعودة إلى الخريطة الاقتصادية الإقليمية.
سوق عالمي متضخم وسوريا تلحق بالركب
تشير الأرقام إلى أن حجم سوق الإعلانات الرقمية عالمياً بلغ 627 مليار دولار في 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 920 ملياراً في 2026. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سجّل الإنفاق نحو 7.9 مليارات دولار العام الماضي، مع نمو سنوي يُتوقع أن يتجاوز 12%.
عودة سوريا، ولو جزئياً، إلى هذه الدورة تمثّل وفق القناص فرصة لالتقاط حصة من هذا التدفق المالي العالمي.
عوائق تقنية ومخاطر مصرفية
لكن المشهد لا يخلو من تحديات. فالبنية التحتية الرقمية في سوريا لا تزال هشة ومتفاوتة بين المناطق، وقنوات الدفع الدولية ما تزال محدودة بسبب سياسات الحذر المصرفي العالمي (De-risking).
كما أن الامتثال الصارم لسياسات المحتوى قد يعرّض الحسابات للإغلاق عند أي خرق، ما يتطلب بناء خبرات محلية في إدارة الحملات والإعلانات، وفقًا لمعايير دولية صارمة.
ويؤكد قناص في ختام حديثه أن نجاح هذه العودة مرهون بـ"الاستثمار في بيئة رقمية منضبطة، والعمل على استعادة الثقة، ومحاربة الاحتيال الإعلاني، وإرساء بنية حوكمة شفافة للعوائد والبيانات".
فرصة واختبار
يشكّل قرار "غوغل" منعطفاً لافتاً في توقيت بالغ الحساسية. فبينما يفتح نافذة رقمية طال إغلاقها، يدفع المؤسسات السورية إلى مواجهة اختبار مزدوج: الالتحاق السريع بركب المعايير العالمية، وصون الفرص الناشئة من الانتكاسات المحتملة في بيئة رقمية لا ترحم التقصير.