ما لا تقوله المؤتمرات عن ريادة الأعمال في منطقتنا

في الأوساط الرسمية، غالبًا ما يُطرح مفهوم ريادة الأعمال على أنه "حل سحري" للبطالة، و"قصة نجاح" قابلة للتكرار. لكن مَن يعمل مع روّاد الأعمال فعلياً، مَن يستمع إليهم لا من فوق المنصّات بل من داخل الغرف المظلمة حيث تُكتب الأفكار تحت ضغط الديون وانقطاع الكهرباء، يعرف أن الحقيقة مختلفة تماماً.
أنا شخصياً التقيت، درّبت، ورافقت مئات الرياديين في لبنان والمنطقة، من بيروت إلى بغداد، من عمّان إلى طرابلس، في ورشات عمل، منافسات، حاضنات ومراكز دعم. وتكاد تتكرر القصة في كل مرّة: نوايا عظيمة، عزيمة حقيقية، لكن بيئة معادية تحوّل الحلم إلى معركة بقاء.
بين "ريادة" الإعلانات، وواقع الميدان
نعيش اليوم انفصالًا حاداً بين صورتين:
الصورة التي تروّجها المؤتمرات وصفحات التواصل، حيث كل شاب يحمل حاسوباً حديثاً وشغفاً بالتغيير، وصورة الواقع: شاب أو شابة يعمل من الهاتف، بلا ضمانات، يلاحقه الإيجار، ويكاد يختنق تحت عبء التحديات.
الدولة تدعو الشباب ليكونوا "منتجين"، لكنها لا توفر الحد الأدنى من البنية التحتية. برامج التمويل تعِد بالدعم، لكنها تغلق أبوابها أمام من لا يتحدث اللغة الصحيحة أو لا يملك علاقات. المؤسسات تنظم ورشات، لكنها تنتهي عند شهادة مشاركة لا تغير شيئاً في حياة من حضرها.
لماذا نفشل في تحويل الريادة إلى رافعة اقتصادية؟
أولًا، لأننا نغفل عن الحقيقة الأساسية: الريادة لا تزدهر في الفراغ.
هي نتاج بيئة، تشريعات، حماية قانونية، ثقافة مجتمعية، وتكامل بين القطاعين العام والخاص.
حين يُترك الريادي وحده، يصبح مشروعه مجازفة شخصية أكثر منه أداة تنموية.
ثانياً، لأننا نتعامل مع ريادة الأعمال كـ"نمط حياة" مستورد، لا كضرورة اقتصادية.
في مناطق مثل عكار، البقاع، غزة، وصيدا، الريادة ليست رفاهية.
إنها الخيار الوحيد أمام شباب يرفضون اليأس، ويقررون خلق فرصهم رغم كل شيء.
ما الذي شاهدته أنا على الأرض؟
عملت مع رياديين لبنانيين أنشأوا مشاريع في ظل الحرب والانهيار الاقتصادي،
مع نساء فلسطينيات يطوّرن منتجاتهن من منازلهن، ويصدّرنها رقمياً،
مع شباب عراقيين ابتكروا حلولًا تقنية لإعادة إحياء قطاعات مدمّرة،
ومع لاجئين سوريين حوّلوا معاناتهم إلى شركات اجتماعية مؤثرة.
جميعهم يجمعهم شيء واحد، غياب الحماية، وانعدام التقدير الرسمي، والاعتماد الكامل على الذات. إذا أردنا فعلاً أن نقود نهضة اقتصادية، فليكن هذا هو المسار:
1- تمويل عادل لا يخضع للمحسوبيات: إطلاق صناديق تمويل مستقلّة بشفافية تامة، وتوجيهها نحو المشاريع الحقيقية، لا تلك التي تُجيد كتابة العروض فقط.
2- تأمين أرضية قانونية واضحة لرياديي المناطق: من السهل أن تسجّل شركة في بيروت، لكن حاول ذلك في البقاع أو الجنوب… ستُفاجأ بعقبات إدارية لا تُحصى.
3 تأسيس شبكة ربط بين الريادة والجامعات، البلديات، والنقابات: لا يمكن للريادي أن ينجح إذا لم يكن جزءاً من منظومة متكاملة. المطلوب هو دمج الريادة داخل المؤسسات، لا خارجها.
4- منظومة رعاية نفسية ومرافقة مهنية طويلة المدى: الريادي في منطقتنا لا يحتاج فقط إلى تدريب تقني، بل إلى من يرافقه في مراحل الفشل، الانهيار، ومحاولات النهوض.
هذه ليست "حالة خاصة بلبنان"… لكنها لدينا أشدّ
نعم، العالم كله يشهد تحديات اقتصادية، ولكن في لبنان، الريادة تجري في ظل انقطاع الكهرباء وانعدام الثقة بالنظام المصرفي وغياب أي استراتيجية اقتصادية للدولة.
بالإضافة إلى انهيار ثقة المواطن بمستقبله. ورغم ذلك، هناك من يغامر، يبتكر، ويبني. هم لا يحتاجون إلى إعجاب على السوشال ميديا، بل إلى نظام يقدّر تضحياتهم.
ريادة الأعمال في لبنان والمنطقة لا تحتاج إلى مزيد من الخطابات التحفيزية، ما تحتاجه هو إرادة سياسية، بنية قانونية، وشبكة دعم صادقة تُنصت قبل أن تُحاضر.
إن دعم الرياديين اليوم هو القرار الاقتصادي – الاجتماعي – الوطني الأهم. ففي كل مشروع ريادي حقيقي، هناك بذرة بلد جديد، لا يشبه هذا الذي يحكمنا منذ عقود.