العالم العربي 06-10-2025 | 13:06

كرة في بستان قد تعني الموت... في سوريا حرب أخرى صامتة

الألغام لا تقتل فحسب، إنما أيضاً تغيّر علاقة الناس بحياتهم اليومية.
كرة في بستان قد تعني الموت... في سوريا حرب أخرى صامتة
جنود سوريون يستخدمون أجهزة الكشف للعثور على الألغام الأرضية في بستان فستق في قرية معان شمال حماة غرب وسط سوريا في حزيران/يونيو 2020 (أ ف ب)
Smaller Bigger

لم تنتهِ الحرب في سوريا حين توقفت المدافع وسقط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024. ما بدا لحظة خلاص تَحوّل سريعاً إلى انتقال من جحيمٍ صاخب إلى آخر أكثر صمتاً، لكنه لا يقل فتكاً.

 

لم يعد الموت يأتي من السماء بالطائرات، بل من تحت الأقدام: انفجارات مباغتة، بلا إنذار، تحصد الأرواح في الطرقات والحقول والمنازل.

في الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 وحده، وثّقت منظمات محلية ودولية أكثر من 650 حادثاً متصلاً بمخلّفات الحرب، أودت بحياة ما يزيد عن 570 شخصاً، وأصابت نحو 850 آخرين. نصف الضحايا تقريباً كانوا من الأطفال.

 

وهذه الوتيرة تعني أن معدل الموت بعد سقوط نظام بشار الأسد تضاعف ثلاث مرات مقارنة بسنوات الحرب المفتوحة، وكأن الحرب لم تغادر سوريا، بل غيّرت فقط شكلها وأدواتها.

 

اللعب بات محفوفاً بالأخطار

المسؤولية عن هذا المشهد موزعة بين أطراف كثيرة. زرع النظام السابق مساحات شاسعة بالألغام لحماية مواقعه الدفاعية، مستخدماً أحياناً ذخائر عنقودية تركت آلاف القنابل الصغيرة مبعثرة في الأحياء والحقول.

 

بدوره، ترك تنظيم "داعش" إرثاً أكثر عشوائية من العبوات اليدوية والمنازل المفخخة، لا سيما في البادية ودير الزور. ولجأت فصائل أخرى إلى الألغام كسلاح ردع على خطوط التماس، بينما ساهمت قوى أجنبية في إدخال ذخائر لم تنفجر بعد.

 

ومع سقوط النظام، لم تُفتح الأرشيفات العسكرية التي تحتوي على خرائط الزرع، ولم تُسلَّم أي بيانات دقيقة. بقيت الأرض مجهولة المعالم، والضحايا المدنيون هم من يدفعون الثمن.

 

لكن الألغام لا تقتل فحسب، إنما أيضاً تغيّر علاقة الناس بحياتهم اليومية. الفلاح الذي كان يخرج فجراً إلى حقله صار يتوقف عند العتبة، يتساءل إن كانت خطواته الأولى ستعيده إلى بيته أم إلى المشفى.

 

والأطفال الذين كانوا يركضون في الأزقة صاروا يتعلمون من أهلهم أن يراقبوا الأرض أكثر مما يراقبون السماء. حتى اللعب صار محفوفاً بالخطر: كرة ساقطة في بستان قد تعني نهاية العمر.

 

جراحات معقدة

ويؤكد الأطباء الذين يعملون في المشافي الميدانية أن أكثر من ثلثي المصابين يحتاجون إلى جراحات معقدة أو أطراف صناعية، فيما نحو ربع الحالات تنتهي بالبتر.

 

ومعظم المصابين أطفال ونساء. هذه الأجساد الصغيرة التي تُفقد أطرافها، والأرواح التي تتشوه بالصدمة، تُمثل وجهاً خفياً للمأساة: الحرب التي زرعت فيهم خوفاً لا يزول حتى لو توقفت الانفجارات.

 

من مخلفات تنظيم داعش
من مخلفات تنظيم داعش

 

الخسائر الاقتصادية لا تقل فداحة. فآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية الخصبة في الرقة وحمص وحماة خرجت من الاستثمار بسبب التلوث، فتحولت الحقول إلى فراغات مهجورة.

 

وتعطلت الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وتعليم مع كل حادث، إذ يخشى الفنيون الدخول لإصلاح الأعطال. وكثير من العائلات التي همّت بالعودة إلى قراها بعد سقوط النظام توقفت عند حدودها، بعدما اكتشفت أن الأرض التي كانت تنتظرها ليست آمنة.

 

هكذا يذهب المنقذون إلى الموت

ولعل الأشد إيلاماً أن جهود الإنقاذ نفسها ليست بمنأى عن الموت: خلال 9 أشهر، فقدت فرق الهندسة العسكرية أكثر من 30 جندياً و16 آلية أثناء محاولات التفكيك.

 

بدوره شيّع الدفاع المدني متطوعين قُتلوا لأنهم حاولوا إنقاذ الآخرين. ما يزيد المشهد قسوة أن هذه الفرق تعمل بأدوات بدائية، إذ تُعامل أجهزة الكشف المتقدمة والآليات المدرعة باعتبارها مواد "ذات استخدام مزدوج" فتُمنع أو تتأخر بسبب القيود الدولية. هكذا يذهب المنقذون إلى الموت بأيديهم العارية، بينما تبقى الأرض ملغومة.

 

يسمعون عن “مركز” لا يرونه

ورغم كل هذه الخسائر، تبدو السياسات الحكومية أقرب إلى خطاب طموح منها إلى إجراءات ملموسة. ففي حزيران/يونيو 2025، أعلنت الحكومة الانتقالية عن إنشاء “المركز الوطني للأعمال المتعلقة بالألغام”، مع وعود بخطة وطنية شاملة وتنسيق مع شركاء دوليين.

 

لكن، على الأرض، لم تُطلق قاعدة بيانات عامة تُبيّن المناطق المطهرة من الملوثة، ولم تُعلن معايير وطنية توحّد طرق المسح والإزالة. وهكذا بقي الناس يسمعون عن “مركز” لا يرونه، بينما تتكاثر القبور في القرى.

 

هذا الفراغ حول ملف الألغام إلى سوق قائمة بذاتها. منظمات إنسانية تتنافس على عقود التمويل، وشركات أجنبية تعرض خدماتها بأسعار باهظة، وحكومات مانحة تربط التمويل بشروط سياسية.

 

وبين هذه المصالح المتشابكة، يصبح الضحايا مجرد أرقام في تقارير تُرفع إلى المانحين. وفي إحدى جلسات التقييم الأممية، وُصف الوضع في سوريا بأنه “أكبر عبء إنساني للألغام في العالم”، لكن الاستجابة الفعلية لم تتجاوز 13% من التمويل المطلوب في 2024.

مقارنة

وتتضح المفارقة عند المقارنة بأزمات أخرى. ففي أوكرانيا مثلاً، تدفقت مئات الملايين من الدولارات على قطاع إزالة الألغام خلال أشهر قليلة، بينما سوريا، رغم تسجيلها أعلى حصيلة ضحايا مدنيين للألغام عالمياً في 2022 و2023، ما زالت تنتظر وعوداً بطيئة ومجزوءة.

 

وهذا التفاوت لا يتعلق بعدد الضحايا أو بحجم التلوث، بل بالمكانة السياسية لكل نزاع: أوكرانيا في قلب أوروبا، تحت الأضواء، بينما تُعامل سوريا كملف إنساني مزمن، لا كأزمة عاجلة.

وعلى المستوى الدولي، تبقى سوريا خارج معاهدتي أوتاوا لحظر الألغام واتفاقية الذخائر العنقودية. وهذا الغياب يضعف فرصها في الحصول على دعم تقني ومالي طويل الأمد، ويحرمها من أدوات المساءلة. ويبرر بعض المسؤولين ذلك بالحاجة إلى "أوراق تفاوض"، لكن النتيجة أن ملايين السوريين يبقون تحت رحمة الألغام.

وإذا نظرنا إلى تجارب دول أخرى، تتضح الصورة أشد قتامة. كمبوديا احتاجت إلى أكثر من 20 عاماً لإزالة جزء من ألغامها رغم الدعم الواسع، وما زال بعض مناطقها ملوثاً حتى اليوم.

 

ولم تتمكن البوسنة والهرسك، بعد ثلاثة عقود على الحرب، من تطهير كامل أراضيها. والعراق، بعد معارك "داعش"، لا يزال يواجه مساراً طويلاً في الموصل والأنبار.

 

فإذا كانت تلك الدول ذات موارد أفضل، ودعم سياسي أوسع، قد احتاجت إلى عقود، فإن سوريا تقف أمام طريق أطول وأصعب.

 

إزالة قنبلة عنقودية شديدة الانفجار في إدلب، 22 أيار/ مايو 2025 (الدفاع المدني السوري)
إزالة قنبلة عنقودية شديدة الانفجار في إدلب، 22 أيار/ مايو 2025 (الدفاع المدني السوري)

 

حلول بدائية... والمطلوب أكبر بكثير

ووسط هذه التحديات، يستمر الناس في ابتكار حلول بدائية. في إدلب، يضع شبان من القرية شريطاً بلاستيكياً أحمر حول الحقول المشبوهة. وفي حماة، يطلق المؤذنون تحذيرات عبر مكبرات الصوت مع بداية مواسم الزيتون.

 

وفي دير الزور، يتنادى الأهالي في مجموعات صغيرة تحذّر الأطفال من الاقتراب من بقايا الحرب. وكلها محاولات بسيطة، لكنها تعكس شعوراً عميقاً بالخذلان: حين تغيب الدولة ويثقل صمت العالم، يصبح المجتمع وحده خط الدفاع الأخير.

 

والمطلوب أكبر بكثير من هذه المبادرات. خبراء إزالة الألغام يؤكدون أن أي خطة جادة يجب أن تبدأ بمسح وطني شفاف، وإطلاق خط بلاغ موحّد، وإدماج دروس التوعية في المدارس، إلى جانب دعم عاجل للضحايا عبر ربطهم بمراكز العلاج والأطراف الصناعية.

 

وعلى المستوى الدولي، لا بد من تمويل متعدد السنوات، ومن فتح ممرات لإدخال معدات حديثة وتدريب فرق محلية على استخدامها.


وفي النهاية، تكشف قضية الألغام أن سوريا لم تخرج من الحرب بعد، بل انتقلت إلى حرب أخرى، صامتة، تزرع الموت تحت التراب. والضحايا هنا لا يُحملون على أكتاف جماعية كما في مجازر كبرى، بل يسقطون فرادى، مزارعاً وراء محراثه، أو طفلاً وراء لعبته.

 

لكن مجموعهم يعادل في فداحته تلك المجازر التي ملأت الشاشات والتقارير الأممية. الفرق الوحيد أن هذه الحرب بلا صور صارخة، بلا صرخات جماعية، بل موت يتسلل إلى الحياة اليومية ببطء وإصرار.

 

وهكذا تبقى الأرض السورية اليوم ساحة حرب مؤجلة: حقول تنتظر من يفلحها، بيوت تنتظر من يعمّرها، وألغام تنتظر من يزيلها. وما لم تتحول الوعود إلى أفعال، وما لم يضع المجتمع الدولي ثقله في هذا الملف، سيظل السوريون يعيشون فوق تراب مشبع بالبارود، يخطون بحذر كأنهم يسيرون على حافة موت لا ينتهي.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

سياسة 10/5/2025 3:09:00 PM
تابعت: "إن الدستور اللبناني يكفل المساواة بين اللبنانيين، مقيمين كانوا أم مغتربين. وتحقيق هذه المساواة يقتضي تعديل القانون الحالي بإلغاء المادة 112، بما يسمح لكل مغترب بالاقتراع في بلدته الأم".
مجتمع 10/4/2025 12:02:00 PM
من المتوقع أن تتأثر المنطقة اعتباراً من بعد ظهر الثلاثاء بمنخفض جوي متوسط الفعالية مركزه شمال غرب تركيا.
مجتمع 10/4/2025 3:23:00 PM
العملية تأتي في إطار الحملة الأمنية التي ينفذها الجيش في المنطقة لضبط المطلوبين ومواجهة التفلّت الأمني منذ ساعات الصباح الأولى.
مجتمع 10/5/2025 1:30:00 PM
أقدم على شهر مسدّس حربي بوجهه وسلبه مبلغ ٣٥٠ دولاراً أميركيّاً ولاذ بالفرار إلى جهةٍ مجهولة.