أزمة السليمانية... من لاهور وبافل إلى التوازنات الإقليمية الجديدة

شهدت مدينة السليمانية، المعروفة بكونها معقل "الاتحاد الوطني الكردستاني" في إقليم كردستان العراق، مواجهة دامية كشفت عن عمق التصدعات داخل بيت عائلة طالباني الحاكمة، حين أقدم زعيم "الاتحاد الوطني" بافل طالباني، على اقتحام مجمع فندق "لالزار"، معقل ابن عمه وخصمه السياسي لاهور شيخ جنكي طالباني، في عملية أمنية غير مسبوقة تخللها اشتباك استمر 12 ساعة.
بدأت الأزمة بين أبناء العم في العام 2023، حين أقال بافل لاهور من منصبه كرئيس مشترك للحزب، ما دفع الأخير إلى تأسيس حزبه المعارض الجديد "جبهة الشعب"، الذي نجح في الحصول على مقعدين برلمانيين في انتخابات العام 2024، الأمر الذي مثّل تحدياً مباشراً لسلطة بافل.
انقلاب داخل البيت الواحد
احتفظ لاهور بـ"قوة العقرب" النخبوية المؤلفة من 400 مقاتل، والتي صارت كأنها جيش موازٍ، مستفيداً في الوقت نفسه من سيطرته على شبكة إعلامية قوية دعمت توجهاته السياسية.
وبلغت المواجهة ذروتها عندما رفض لاهور الامتثال لاستدعاء قضائي، فبادر بافل إلى نشر الدبابات وقوات مكافحة الإرهاب والكوماندوز في عملية ضخمة شارك فيها نحو 800 عنصر أمني، أسفرت عن مقتل ثلاثة من عناصر "الاتحاد الوطني"، من بينهم ابن عم بافل، آري شيخ سعاد طالباني، وإصابة عشرة من أفراد الأمن، كما أصيب شقيق لاهور، بولات طالباني، أثناء عملية الاستسلام.
وبعد سيطرة القوات على المجمع، وُجهت إلى لاهور اتهامات خطيرة بموجب المادة 56 من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بتنظيم جماعات مسلحة، وهي تهم قد تصل عقوبتها إلى السجن سبع سنوات. وبعد تدخلات ووساطات أبرزها من "الإدارة الذاتية في سوريا"، انتهى المطاف بلاهور وزوجته وأطفاله بالتوجّه إلى السويد، حيث حصل على حق اللجوء السياسي، بينما غادر شقيقه أراس إلى المملكة المتحدة.
وكشف مصدر في "الاتحاد الوطني الكردستاني"، الأربعاء، لوسائل إعلام محلية عن وجود أربع محاولات اغتيال مدبّرة خلال الشهرين الماضيين استهدفت كلاً من رئيس الحزب بافل طالباني ونائب رئيس إقليم كردستان قوباد طالباني. ووفقاً للمصدر، فإن المحاولة الأولى ضد بافل خطط لها أحد القادة العسكريين، لكنها أُلغيت بسبب وجود مسؤول أميركي إلى جانبه. أما الثانية فكانت عبر قنّاص على بعد 600 متر من مشروع سكني في ديباشان، إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة بعد تصويب بندقيته على صدر بافل. فيما جرت المحاولة الثالثة في مطعم "فوغ" بمنطقة سرنچار لكنها فشلت أيضاً، في حين كانت الرابعة عبر سيارة مدرعة، غير أن فريق حماية بافل أحبطها. كما تم التخطيط لمحاولة اغتيال قوباد أثناء وجوده على متن طائرة فوق سماء السليمانية.
السليمانية بين أنقرة وطهران
لم يكن هذا الصراع جديداً داخل عائلة طالباني، فقد شهدت انقسامات عميقة في الماضي، خصوصاً بعد وفاة مؤسس "الاتحاد الوطني" والرئيس العراقي السابق جلال طالباني عام 2017.
وكان "مام جلال" قد نجح في توحيد التيارات اليسارية الكردية تحت راية علمانية وطنية منذ السبعينيات وحتى أوائل الألفية الثانية، لكن رحيله ترك فراغاً قيادياً أدى إلى انقسام الحزب بين جناحين يقودهما ابنه بافل وابن أخيه لاهور.
الاتفاق الأولي لتقاسم السلطة بين بافل ولاهور انهار سريعاً، وشهد عام 2021 اشتباكات بين قوات تابعة للطرفين. ورسّخت سيطرة لاهور لعقد كامل (2002–2013) على وحدة مكافحة الإرهاب (CTG) ووكالة الاستخبارات نفوذه على البنية الأمنية في شرق كردستان. وعلى خلفية عمليات تصفية بافل للموالين للاهور عام 2021، شكّل الأخير ميليشيا مسلحة عُرفت بـ"مجموعة العقرب".
وتفاقم الصراع بفعل النزاعات حيال السيطرة على عائدات الجمارك في السليمانية، التي تُقدَّر بـ18 مليون دولار شهرياً، إضافة إلى شبكات تهريب النفط نحو إيران، وسط تبادل الاتهامات بين الجانبين.
وبحسب معلومات حصلت عليها "النهار" من مصادر كردية في السليمانية، فإن المخابرات التركية (ميت) وجهاز المخابرات الوطني العراقي قدّما دعماً للعملية عبر المراقبة بالطائرات المسيّرة واعتراض الاتصالات والتأكد من وجود لاهور داخل الفندق، ما يشير إلى دعم أنقرة لعملية تصفية لاهور.
وكان لاهور قد تعاون مع الجنرال الإيراني قاسم سليماني عام 2016 في معركة تحرير آمرلي من "داعش"، ما عزز علاقاته مع طهران وكسب ثقتها، وفق مصادر مقربة من بافل. وبالتالي فإن اعتقاله شكّل ضربة للنفوذ الإيراني الكبير في السليمانية ومطارها على وجه الخصوص.
في المقابل، تتحدث معلومات متناقضة عن احتمال ضلوع لاهور في تسريب معلومات إلى الجانب الأميركي ساهمت في مقتل سليماني وأبو مهدي المهندس. وفي حين آن منتقدي بافل يتهمونه بانتهاج سياسات إقصائية لتصفية مراكز القوة داخل "الاتحاد الوطني" وفي السليمانية لتثبيت حكمه، فإنهم يشبّهون أسلوبه بنهج عائلة بارزاني في أربيل، مستشهدين بعمليات اعتقال أو تحجيم شخصيات سياسية مهمة داخل الحزب، مثل محمد الشيخ عثمان وملا بختيار، وكذلك استهداف رئيس "حراك الجيل الجديد" شاسوار عبد الواحد، الذي يملك حزبه 15 مقعداً في برلمان الإقليم.
كذلك، تشير المصادر إلى تنامي العلاقات بين بافل وأنقرة مؤخراً، مستشهدة بمنحه حقوق استكشاف كتلة "غارميان" لشركة النفط التركية (TPAO)، بما يعزز مشروع خط أنابيب السليمانية–شرناق، متجاوزاً مطالب بغداد بشأن تقاسم العائدات النفطية.
الكرد على رقعة الشرق الأوسط الجديد
تسببت الحادثة في أزمة قيادية داخل الحزب، إذ حضر اجتماع ما بعد العملية 19 نائباً فقط من أصل 45 نائباً برلمانياً. كما اتهمت منظمات المجتمع المدني في السليمانية الحزب بتغليب المصالح العائلية، محذّرة في الوقت ذاته من أن استمرار حالة عدم الاستقرار قد يفتح الباب أمام هيمنة "الحزب الديموقراطي الكردستاني" بزعامة عائلة بارزاني، أو حتى تدخل الحكومة المركزية العراقية استناداً إلى المادة 121 من الدستور، التي تسمح لنائب رئيس الوزراء بنشر وحدات الشرطة الاتحادية في السليمانية بحجة "استعادة النظام الدستوري".
ويُقرأ صمت واشنطن على أنه دعم غير مباشر للعملية، التي تتماشى مع أولويات القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) الهادفة إلى ترسيخ استقرار يقوده "الحزب الديموقراطي الكردستاني" في الإقليم. في المقابل، تحدثت مصادر كردية عن حصول لاهور على دعم روسي عبر مستشاري "فاغنر"، مقابل تزويد موسكو بمعلومات حساسة عن القواعد العسكرية الأميركية.
إن صراع أبناء العم في السليمانية يجسد مأساة السياسة الكردية المعاصرة، إذ يعتمد قادة مثل لاهور وبافل، رغم حديثهم عن حق تقرير المصير، على رعاة خارجيين لتصفية حساباتهم الشخصية. ومع تشديد تركيا قبضتها على ملف الطاقة، وردّ إيران عبر وكلائها، وسعي بغداد إلى استعادة سلطتها الاتحادية، يواجه أكراد العراق خطر التحول إلى مجرّد متفرجين على تقطيع أوصال وطنهم ضمن مشهد "الشرق الأوسط الجديد".