تحوُّل الجدارة المهنية تحت ضغط الذكاء الاصطناعي
خلال السنوات الأخيرة، أعاد الذكاء الاصطناعي ترتيب أولويات المؤسسات في ما يتعلق بالإنتاجية والتكلفة وتوزيع الأدوار داخل فرق العمل. هذا التحول لم ينعكس فقط على الأدوات المستخدمة، بل على معايير تقييم الكفاءة المهنية نفسها، وعلى موقع العنصر البشري داخل سلاسل اتخاذ القرار.
في هذا السياق، يشرح الدكتور محمد إسماعيل، الباحث والمدرّب في التحول الرقمي، في حديثه لـ "النهار"، الكيفية التي انتقل بها الذكاء الاصطناعي من عامل مساعد إلى محدد رئيسي في نماذج العمل الحديثة، وما يترتب على ذلك من إعادة تعريف لمفهوم الخبرة والمهارة والقيادة المهنية.
من تعظيم الربح إلى ضرورة اقتصادية
يرى إسماعيل أن الحقيقة الجوهرية الثابتة في عالم التجارة والأعمال تتمثل في أن كل شركة، مهما اختلف حجمها أو قطاعها، تتمحور حول هدف استراتيجي واحد هو تعظيم الربح. ووفق هذا المنطق، انتقل الذكاء الاصطناعي من خانة "الصرعة التقنية" إلى مرتبة "الضرورة الاقتصادية"، بعدما قدّم للمؤسسات حلاً لمعادلة كانت تُعد مستحيلة سابقاً، تقوم على تحقيق الكفاءة التشغيلية عبر خفض التكاليف بشكل جذري، بالتوازي مع قابلية توسع هائلة تتيح إنتاج أكثر بموارد أقل.
هذا الواقع الجديد، بحسب إسماعيل، أحدث انقلاباً في معايير تقييم الموارد البشرية، وأعاد تعريف مفهوم الموظف الكفوء. ففي النموذج التقليدي، كانت القيمة المهنية تُستمد من تراكم الخبرة والقدرة على الحفظ وبذل الجهد الذهني، أما اليوم فقد أُعيد رسم الهرم الوظيفي ليصبح المعيار الحقيقي هو القدرة على العمل كمضاعف للإنتاجية.
هندسة الأوامر وديمقراطية الكفاءة
يشير إسماعيل إلى أن الأفضلية في سوق العمل لم تعد حكراً على الأقدمية، بل انتقلت إلى من يتقن مهارة هندسة الأوامر، التي تحولت إلى لغة العصر الجديدة والمهارة الأكثر طلباً. وقد أسهم هذا التحول في ما يصفه بـ"ديمقراطية الكفاءة"، حيث يمكن لموظف جديد متمكن من هذه المهارة أن يتفوق على خبير مخضرم يفتقر إليها.
ويؤكد أن هذا الواقع يفرض على الشركات والأفراد معاً ضرورة التوجه الجاد نحو رفع الكفاءة المهنية من خلال برامج تدريبية متخصصة، مشدداً على أن المسألة لا تتعلق بتعلم تقنية عابرة، بل بتحول بنيوي في سوق العمل.
المرونة الذهنية كشرط للبقاء
بحسب إسماعيل، يتطلب هذا التحول تدريب العقل على المرونة الذهنية، أي القدرة على صياغة السياق وتوجيه الآلة بدقة. ويعتبر أن التدريب يشكّل الجسر الوحيد لردم الفجوة التقنية، ومنع تحوّلها إلى عدم مساواة وظيفية دائمة بين من يمتلكون هذه القدرات ومن يفتقرون إليها.
الإنسان في الحلقة… لا الأتمتة العمياء
انطلاقاً من خبرته المهنية في تدريب المؤسسات على تبني تقنيات المستقبل، يحرص إسماعيل على ترسيخ مفهوم "الإنسان في الحلقة"، محذراً من مخاطر الركون إلى الأتمتة. ولتوضيح العلاقة التكاملية بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، يشبّهها بقُمرة قيادة الطائرة، حيث يظل الموظف البشري هو الطيار الأساسي وصاحب القرار في مرحلتين حاسمتين: الإقلاع، الذي يمثل صياغة النوايا الاستراتيجية وتحديد السياق بدقة، والهبوط، أي المراجعة النهائية والتحقق من الجودة قبل اعتماد النتائج.
في المقابل، يؤدي الذكاء الاصطناعي دور مساعد الطيار، متكفلًا بمرحلة التحليق التي تتطلب معالجة كميات ضخمة من البيانات وتنفيذ العمليات الروتينية المعقدة بسرعة تفوق القدرات البشرية.
الذكاء المعزز لا الاستبدال الكامل
يوضح إسماعيل أن هذا التوزيع للأدوار يعكس فلسفة "الذكاء المعزز"، لا منطق الاستبدال الكامل. فالاستسلام التام لمخرجات الآلة، بحسبه، يلغي الحس النقدي، ويحوّل الأخطاء التقنية إلى مخاطر مهنية جسيمة، مهما بلغت دقة الأنظمة الذكية.
ويرى أن هذا الفهم يبدد المخاوف من نشوء فجوة بين الأجيال، مؤكدًا أن التحدي الحقيقي لا يتعلق بصراع بين جيل رقمي وآخر تقليدي، ولا حتى بالقدرات التقنية البحتة، خصوصاً مع التطور المتسارع في تقنيات معالجة اللغة الطبيعية، التي تقلص الحواجز التقنية وتنقل التحدي من الشاشة إلى العقل.
من يُقصى من سوق العمل؟
يخلص إسماعيل إلى أن الخطر الحقيقي في سوق العمل لا يهدد كبار السن، بل أصحاب العقلية الجامدة الذين يرفضون مغادرة مناطق الراحة أو قبول فكرة الشريك الرقمي. فالإقصاء من السوق، بحسبه، لا يحدث بسبب العمر، بل بسبب غياب الذكاء التكيفي.

ويضيف أن المعيار الفاصل مستقبلًا لن يكون محو الأمية الرقمية وحده، بل القدرة على مواءمة الذهنية البشرية للعمل بتناغم مع الذكاء الاصطناعي ضمن منظومة متكاملة، ليكون البقاء للأكثر مرونة لا للأكثر تقنية.
بين التمكين المعرفي وضمور العقل
في ختام الحوار، يحذر إسماعيل من الانزلاق نحو الكسل المعرفي والتحيز للأتمتة، حيث يتحول الإنسان من محلل ومدقق إلى مجرد موافق صامت. ويؤكد أن هذا المسار لا يؤدي فقط إلى فقدان مهارات الحل، بل إلى تآكل المعرفة الضمنية والحدس المهني المتراكم عبر الخبرة.
ويشدد على أن القيمة البشرية العليا ستظل كامنة في القدرة على صياغة الأسئلة، وامتلاك الذكاء السياقي، والذكاء العاطفي، إلى جانب المحاكمة الأخلاقية، باعتبارها الضمانة الأخيرة لبقاء الإنسان قائداً للتكنولوجيا، لا تابعاً لها.
نبض