جروح إلكترونية بلا صوت… العنف الرقمي يتفشّى والضحايا يتراجعون صمتاً
د. إسلام محمد سرور*
في عصرٍ أصبحت فيه التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية، برز نوع جديد من العنف لم يكن مألوفاً قبل عقدين فقط: العنف الرقمي.
هذا الشكل من الانتهاك لا يترك كدمات على الجسد، لكنه يترك آثاراً أعمق على النفس والمجتمع، ويعيد طرح تساؤلات جوهرية حيال حدود الحرية، وأخلاقيات الاستخدام، والمسؤولية في الفضاء الإلكتروني.
تعريف العنف الرقمي
يُعرَّف العنف الرقمي بأنه أي سلوك عدائي أو اعتداء يُمارس باستخدام التكنولوجيا أو المنصات الرقمية بهدف إيذاء الآخرين أو تهديدهم أو ابتزازهم أو تشويه صورتهم أو إسكاتهم.
ويتخذ هذا العنف صوراً متعددة، منها: التنمّر الإلكتروني، التهديد بنشر المعلومات الخاصة أو الصور، التحرش عبر الرسائل أو التعليقات، المراقبة غير المشروعة، اختراق الحسابات، أو استخدام تقنيات مثل التزييف العميق (Deepfake) لتشويه السمعة أو تقويض الصدقية.
ولا يقف الأمر عند حدود الأفراد فحسب، بل يمتد إلى قضايا أعمق تمسّ الحق في التعبير وحرية المشاركة العامة، خصوصاً بالنسبة الى النساء والفتيات والناشطين الحقوقيين الذين يواجهون هذا العنف أداة لإسكاتهم ومنعهم من المشاركة في النقاش العام.
الواقع من خلال الإحصائيات والأرقام
تشير الإحصاءات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women Arabia) إلى أرقام مقلقة تعكس حجم الظاهرة في المنطقة العربية:
• سبع من كل عشر نساء مدافعات عن حقوق الإنسان في المنطقة تلقّين محتوى جنسيّاً غير مرغوب فيه، بهدف إخافتهن أو منعهن من التعبير عن آرائهن في القضايا العامة.
• أكثر من نصف عدد الناشطات الحقوقيات تعرّضن لمكالمات ورسائل غير لائقة عبر المنصات الرقمية.
• رجل من كل أربعة رجال اعترف بارتكاب شكل من أشكال العنف الرقمي عبر الإنترنت، فيما صرّح 26% من مرتكبي العنف الرقمي أنهم يعتبرونه "حقًّا لهم"، و23% منهم برّروا تلك الأفعال باعتبارها مجرد "تسلية وترفيه".
هذه الأرقام تكشف أن العنف الرقمي ليس سلوكاً هامشياً، بل ظاهرة ممنهجة تسعى إلى تكميم الأفواه، وتشويه الأصوات النسائية المدافعة عن الحقوق، وفرض رقابة اجتماعية خفية عبر الخوف والإذلال والوصم.
التأثيرات الاجتماعية والنفسية للانتهاكات الرقمية
تُظهر الدراسات أن العنف الرقمي يولّد آثاراً نفسية بالغة الخطورة، مثل القلق المزمن، والعزلة، والاكتئاب، وفقدان الثقة بالنفس.
لكن الأخطر من ذلك هو الأثر التراكمي على المشاركة العامة للنساء؛ فكثيرات يترددن في التعبير عن آرائهن أو الانخراط في النقاشات الحقوقية خوفاً من التعرض للإيذاء الرقمي لهن أو لأسرهن.
كما أشارت تقارير الأمم المتحدة إلى أن عدداً من المدافعات عن حقوق المرأة يتجنبن الكتابة أو المشاركة في الحملات الحقوقية خشية أن يمتد الأذى إلى أطفالهن أو محيطهن الأسري، مما يخلق دائرة صمت تضر بالحياة العامة وتُفقِد الفضاء الرقمي تنوعه وصوته الإنساني.

الذكاء الاصطناعي والعنف المؤتمت
تفاقمت خطورة العنف الرقمي مع انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يتيح بسهولة إنشاء صور أو مقاطع فيديو مزيفة تُستخدم في تشويه السمعة أو التشهير.
فالتقنيات الحديثة مثل "الذكاء الاصطناعي العميق" قادرة على إنتاج محتوى مُضلّل يصعب تمييزه عن الحقيقة، وهو ما يضاعف الضرر النفسي والاجتماعي على الضحايا ويجعل محاسبة الفاعلين أكثر تعقيداً.
كما أن انتشار أدوات الاستنساخ الصوتي والمونتاج الآلي مكّن المعتدين من ابتكار أشكال جديدة من الإساءة، تتجاوز حدود القانون التقليدي وتستدعي تحديثاً عاجلاً للتشريعات الوطنية.
الحاجة إلى تشريعات توفر الحماية والمساءلة الفعّالة والرادعة
يُعد العنف الرقمي أحد أخطر التحديات القانونية في القرن الحادي والعشرين، لأنه يتقاطع مع قضايا الخصوصية، وحماية البيانات، وحرية التعبير، والكرامة الإنسانية، ولذلك، أصبح من الضروري أن تسعى الدول إلى:
1. إصدار تشريعات واضحة تجرّم العنف الرقمي بجميع أشكاله، بما في ذلك إساءة استخدام التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي.
2. تحديد المسؤولية القانونية لمنصات التواصل الاجتماعي في الرقابة ومنع نشر المحتوى العنيف أو الجنسي أو التحريضي.
3. تعزيز آليات المراقبة والرصد والتحقيق الرقمي بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية.
4. نشر الوعي الرقمي في المدارس والجامعات لتثقيف الأجيال الجديدة حول السلوك الآمن والمسؤول في الفضاء الإلكتروني.
مسؤولية جماعية في مواجهة العنف الرقمي
العنف الرقمي ليس قضية تخص النساء وحدهن فحسب، بل هو تهديد مباشر لقيم العدالة وحرية التعبير والمشاركة العامة. وإذا ما تُرك من دون ضوابط، فسيتحوّل الفضاء الإلكتروني من مساحة للحوار والتنوير إلى ساحة للعنف والإقصاء والتمييز.
وختاماً فإن جوهر هذا المقال يتمثل في الدعوة إلى تحويل الفضاء الرقمي إلى مساحة آمنة تحترم الإنسان وتُعزز صوته لا تُخنقه، فالتقنيات التي طوّرها العقل البشري يجب أن تظل وسيلةً للمعرفة لا أداةً للهيمنة أو الإيذاء، كما أن بناء تشريعات رادعة وآليات حماية فعّالة هو السبيل إلى استعادة الثقة في الفضاء الرقمي، وضمان أن يكون التحول الرقمي خطوة نحو الحرية والمساواة، لا نحو التهديد والصمت.
*المستشار القانوني والاجتماعي والخبير في القانون الدولي، والباحث في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني
نبض