في العشرين
الرقم 20 رقم دائري، يعتبره البعض أجمل من الرقم 19 أو 18. ويقول البعض إنها ذكرى، أي من الماضي، فلا يهتمّ للرقم إلا بقدر ما يكون جميلاً. لا يدرك الجميع أن الماضي هو الحاضر، وهو المستقبل. لا يمكننا تجاوز الماضي، بل أحياناً عقد الماضي التي تؤثر في حياتنا. الحنين لا يرتبط بالزمن. قد تختلف أشكال التعبير عنه، لكن الحزن والألم يحفران عميقاً في الإنسان. هذه هي الحال مع من نحب. لا يفارقنا الأحبة. يسكنون في زوايا منازلنا، والأهمّ في زوايا القلوب.
وكيف الحال إذا كان الكلام عن كبار استشهدوا من أجل قضية؟ فهل يطويهم زمان أو مكان؟ لا تزال أسماء بشارة الخوري ورياض الصلح وغيرهما شاهدة على التاريخ، متجذّرة في حاضرنا. ومن بعدهما تأتي أسماء كثيرة: الرؤساء بشير الجميل ورينه معوض ورفيق الحريري... ولا مجال للتعداد، لأن اللائحة تطول. يكفينا أن نذكر شهداء انتفاضة الاستقلال، التي دفعنا في "النهار" ثمنها غالياً؛ بداية مع محاولة اغتيال مروان حمادة، ثم اغتيال سمير قصير، وبعده جبران تويني.
مع جبران، الذي نقيم ذكراه اليوم (12-12-2005)، تختلط المشاعر الوطنية بالمشاعر المهنية، مع المشاعر العائلية. وقد ذكرت العائلية في آخر اللائحة، حتى لا أحصر جبران في عائلتنا الصغيرة، أو حتى في عائلة "النهار"، لأن جبران كان أوسع مدًى، على امتداد الوطن، وأوسع في الجغرافيا، إذ ناضل مع الاتحاد العالمي للصحف في معارك حريات تتصل بالمهنة والإنسان المعذب والمضطهد والملاحق، وبالصحافي الذي يطمح دوماً إلى مساحة أكبر من الحرية.
مع جبران يصبح الماضي هو الحاضر. فالحريات التي ناضل من أجلها هي قضية كل مكان وزمان. وجبران، الذي رحل قبل 20 سنة، لا يزال ينبض في قلوب عارفيه ومحبيه. ولعلّ ما يفرحنا في هذا المجال أن كثيرين، ممن هم دون العشرين من العمر، يسألون عنه، ويطلبون مقالاته وصوره، ويقصدون نهاره للتعرف عليه من قُرب. وجبران حاضر بقوة في "النهار"، التي أرادوا إسكاتها، فتحدّتهم، وتوسّعت، ونمت، وكبرت، وحلّقت محققة ذاك العنوان التاريخي، الذي خطه غسان تويني لعدد 13-12-2005: "جبران تويني لم يمت والنهار مستمرة".
"نهار" غسان وجبران وكل الشرفاء والوطنيين والأحرار تحدّت الموت والقهر، وحققت نجاحات على مستوى العالم، فحصدت الجوائز العالمية، وقبل ذلك في العالم العربي، فأصدرت مطبوعتها في دولة الإمارات العربية المتحدة، في الوقت الذي تطمح فيه إلى دول وعواصم عربية أخرى.
و"النهار" عززت إمكاناتها البشرية، وتعاونت مع كبريات الشركات العالمية لإعادة الهيكلة والتنظيم، بما يليق بتاريخها وحاضرها ومستقبلها، وأثبتت وجودها في عالم التواصل الاجتماعي، وفي مسيرة التحديث على كل المستويات.
هي "النهار" التي طمح إليها جبران، والدي. وقد أعدنا ترميم المكاتب بأبهى حلّة، بعدما كان صمّمها وحقّقها لتكون من الأرقى على مستوى العالم، قبل أن يصيبها انفجار مجرم في 4 آب 2020، حاصداً مئات الضحايا ومدمراً آلاف الممتلكات.
جبران، في عيدك العشرين، ولا أقول في ذكراك، نحتفل معاً بكلّ الحب الذي زرعته، بكل الاندفاع الذي عشته، بكل الجرأة التي واجهت بها التحديات، بكل الوطنية التي رافقت مسيرتك، بكل العشق للصحافة التي خضت معاركها.
جبران والدي: العشرون رقم مثل كل الأرقام، لا يعني قِدماً أو عتقاً، بل مزيداً من التصميم، من الإرادة، ومن المثابرة، ومزيداً من الحب، من العشق، من الوفاء.
نبض