بيروت تستعيد جبران تويني في أمسية تليق بوصيّته للحرية
"في أيّ مكانٍ كان رجلٌ رحَلَ / لأنّه التَقَطَ نجمةً / لأنه تنشَّقَ غبارَ موسیقی / لأنه طَبَعَ الأرضَ بالضحكِ / لأنه أفلَتَ وحوشاً مزهرةً عند مداخلِ المدينة". إنّها كلمات ناديا تويني، الشاعرة الأم، الحاضرة الأمسية التكريمية لولدها الشهيد جبران تويني، في مساء بيروتي يحلّ ثقيلاً على مدينة أتعبتها عشرون سنة غياب.
الليل باردٌ، ووهج الذاكرة يلفّ الحجر العتيق لكاتدرائية القديس لويس، حيث وقف الإمام موسى الصدر عشيّة الحرب الأهلية مخاطباً بالإنسانية والوحدة. الأمسية التي نظّمتها "مؤسّسة جبران تويني"، وحضرها رئيس الحكومة نواف سلام ووزراء ونواب وشخصيات سياسية واجتماعية وثقافية، جاءت محاولة صادقة لاستعادة صوته وروحيّة قسمه، ذاك الذي عاشه بشغفٍ يفيض عن الحياة نفسها. في الذكرى العشرين لاغتياله، استدار الزمن دورة كاملة ليعيد إليه جمهوره، أسرته، أصدقاءه، رفاق الدرب، وكل من حمل في قلبه معنى الحرية التي علّمنا جبران أنّها لا تختفي حين يغيب أصحابها.

كان للموسيقى الكلمة الأولى. الموسيقى الكلاسيكية التي كان جبران يعشقها، يختزنها في مكتبته بين عشرات الأقراص التي كان يعود إليها كلما ضاقت به الأرض وكلّما اتّسعت أحلامه. كلاسيكياته المفضّلة عُزفت كما استرجاع طقس يومي عاشه بين مقال ومقال، بين لقاء ولقاء، حين يترك العالم قليلاً ليدخل في حوار صامت مع موسيقى يعرف أنها ترتّب فوضى القلب. تحت قيادة المايسترو لبنان بعلبكي، طارت الموسيقى بنا إلى السماء، مُعيدةً، مقطوعة تلو مقطوعة، تركيب تفاصيل من حياة الشهيد: نزاهته، اندفاعه، صوته الهادر، صدى خطواته في أروقة "النهار"، ورؤيته للإنسان.
ثم جاء صوت الأب. غسان تويني، الصحافي الذي حمل لبنان والمهنة على كتفيه، وحمل جبران على ذراعيه وفي قلبه. قرأ رفيق علي أحمد نصوص غسان كما لو أنّ الأب نفسه عاد ليمسك بالمنبر، وليقول مرة أخرى عباراته التي هزّت اللبنانيين يوم ودّع ابنه: "أنا أدعو اليوم لا إلى انتقام ولا إلى حقد ولا إلى دم؛ أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله. وأدعو اللبنانيين جميعاً مسيحيين ومسلمين لأن يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم في خدمة قضيته العربية". كانت استعادة لتلك الفصاحة الرصينة والموجوعة التي طبعت غسان، ولذاك الحضور الإنساني الذي يجمع الحكمة بالجرح.

وتلا ذلك صوت الأم، وشِعرها. ذلك الشعر الذي يسكن العائلة كقدرٍ مجيد وموجع. ناديا تويني، الشاعرة التي رحلت قبل أن يُسفك دم ابنها بسنوات، كتبت دائماً عن الفقد، عن البلاد التي تلتهم أبناءها، عن الوجع الذي لا يتوقف. في أمسية جبران، قرأت جوليا قصار قصائد ناديا وكأنّ الزمن أعاد صياغتها. بدا شعرها كأنه كُتب لجبران تحديداً، كأن الأم استبقت المأساة بنبرة تعرف أن هذه البلاد لا تمنح أبناءها مع البطولة سوى الوجع. كان حضور ناديا عبر كلماتها حضوراً ساحقاً، يفتح باباً بين أم وابن لم يجتمعا في الوداع الأخير، لكنه جمعهما في لقاء شعري.
بين الشعر والموسيقى، تقدّم المؤلف الموسيقي ميشال فاضل والفنانة سمية بعلبكي وجوقة كورال جامعة سيدة اللويزة ليضيفوا إلى الأمسية طبقة جديدة من الدفء، في فسحة سماوية تُعاد فيها محاولة الإمساك بروح رجل عاش ليقول الحقيقة، واستشهد لأنه لم يقبل المساومة عليها. والحاضرون استعموا للمرة الأولى إلى جبران يغنّي "My Way"، تلك الأغنية التي عشقها، ولازمته كلماتها، وكان يختم بها سهراته مع الأصدقاء. إنها مفاجأة الحفل، وهديّة ميشيل تويني - ابنة الشهيد ورئيسة "مؤسّسة جبران تويني" - وميشيل فاضل ولبنان بعلبكي.

بدا جبران كأنه يعبر بين مقاعد الكاتدرائية. مرّة في نوتة موسيقية، مرّة في بيت شعر، مرّة في صدى صوت والده، ومرّة في دموع الحاضرين، وفي صوره وعرض الـ3d Mapping البصري الذي نفّذه باحتراف إيميل عضيمي. لم يكن الغياب سيد الليلة. كانت الحياة، حياته تحديداً، حاضرة بقوة أكبر من أي موت. الجميع حضروا، رفاق الأمس وأحبّاء اليوم والغد، وسياسيّون ومسؤولون. وبيروت أحيت ذكرى من أحبّها وأحبّ لبنان حتى الشهادة. وفي حضرة الموسيقى والكلمات، عاد جبران تويني ليذكّرنا جميعاً بأنّ الحرية لا تُغتال، بل تتكاثر في القلوب التي تؤمن بها.







نبض