سقوط الجغرافيا السياسية... ترامب يصدّع الحرب الباردة
من بين ما يجعل قراءة وإعادة قراءة التاريخ أمراً مثيراً للاهتمام هي القدرة على الخروج باستنتاجات لا تعدّ بالضرورة سائدة. لهذا السبب، وبالرغم من التصورات الأساسية، ليست كل المحطات التاريخية المفصلية متفقاً عليها تماماً.
ثمة مؤرخون يدمجون مثلاً الحربين العالميتين في حرب واحدة، هي حرب "الثلاثين عاماً" الثانية. ومنهم من يرى أن التحول الأساسي في النصف الثاني من القرن العشرين لم يتبلور بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بل في أواخر السبعينات، مع ظهور المحافظين على ضفتي الأطلسي وبداية صعود الصين والثورة الإيرانية. بحسب هؤلاء، استمرت الحرب الباردة إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحديداً إلى حين اندلاع حرب أوكرانيا.
لسبب مختلف إلى حد ما، انضم مؤخراً المحلل الجيو-سياسي جورج فريدمان إلى هذه المجموعة من المفكرين. من زاوية العلاقة المتينة بين الحلفاء الأطلسيين التي طبعت جانباً مهماً من جوانب حقبة 1945-1991، أشار فريدمان يوم الاثنين إلى أن غزو روسيا لأوكرانيا أنهى الحرب الباردة. بحسب تحليله في "جيوبوليتيكال فيوتشرز"، كانت العلاقة الأميركية-الأوروبية آيديولوجية من حيث مواجهة الشيوعية، واستراتيجية أيضاً، إذ شكّل احتمال التمدد السوفياتي إلى الغرب خطراً على حرية أميركا في المحيط الأطلسي. بهذا المعنى، تحطمت الحرب الباردة في أوكرانيا لأن روسيا فشلت في الغزو، مما جعل احتمال تحولها إلى قوة عظمى تهدد الولايات المتحدة، أمراً مستحيلاً.

لكن هذا التحليل يُسقط أبعاداً أخرى من السياسة الأميركية الراهنة. هل كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفكر حقاً في مدى إمكانية سيطرة روسيا على الموانئ الأوروبية الغربية، وحين وجد الأمر مستبعداً، تراجع عن دعم أوكرانيا وأوروبا؟ يتطلب الموضوع مجازفة كبيرة للاقتناع بهذه الفرضية.
بين الموضوعي والشخصي
ترتكز رؤية ترامب للعالم إلى تقسيمه بين عدد من القوى، بل بين عدد من القادة أو "الرجال الأقوياء" الذين يعقدون صفقات سريعة في ما بينهم. وكما كتبت كوري شيك من "معهد المشروع الأميركي" قبل عشرة أيام في "فورين بوليسي"، إن الحرب الوحيدة التي يستعد البيت الأبيض لخوضها هي الحرب الثقافية. بالفعل، يرى كثر من جمهوريي "ماغا" في واشنطن أن روسيا حليف موضوعي لهم في الحرب الثقافية ضد "النخب" المعولمة.
قد يُدفن أحد أسس الحرب الباردة قريباً، لكن ليس لأسباب استراتيجية. تبتعد واشنطن عن أوروبا وتتقرب من موسكو بسبب التلاقي الثقافي بين الطرفين، على ما في هذا "التلاقي" من غموض توصيفي يَجْنح نحو المبالغات. حتى تفكير ترامب تجاه الصين يميل إلى أن يتبوأ المستوى الاقتصادي، لا الجيوسياسي. من هذه الزاوية مثلاً، لا يزال قراره الأخير السماح لشركة "أنفيديا" ببيع رقائق متطورة (أتش-200) إلى الصين يثير الجدل الداخلي.
تراجع الجغرافيا السياسية
للدلالة على ضمور المعيار الجيوسياسي في المعادلة الأميركية الجديدة، يمكن طرح السؤال بصياغة أخرى: هل كان لإدارة ديموقراطية، لو فازت بالانتخابات الماضية، أن تتخلى عن أوروبا، فقط لأن روسيا عاجزة عن تشكيل تهديد إقليمي ضد الولايات المتحدة؟ الجواب الراجح هو لا. فبالرغم من بقاء الواقع الاستراتيجي لروسيا على ما هو عليه، يبقى أن إدارة ديموقراطية ستظل ترى في أوروبا حليفاً ثقافياً لها، بعكس روسيا.

الجغرافيا السياسية بالغة الأهمية في العلاقات الدولية، لكنها لا تختصر كل الصورة، ولا حتى جزأها الأكبر في الولايات المتحدة. بالنظر إلى هذا الواقع، قد يتأجل مصير البحث في مآلات "الحرب الباردة" إلى ما بعد 2028، إذا صمدت أوكرانيا، ومعها أوروبا.
نبض