روسيا وأفق ‘الخندقراطية‘

56 وفاة غامضة.
هذا هو الرقم الذي أورده الصحافي أندريه كولَسنيكوف عن عدد المسؤولين والأوليغارشيين الروس الذين وافتهم المنية بطريقة غريبة، عادة عبر السقوط من النوافذ أو الانتحار، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022.
لكن بما أن رقم كولسنيكوف يعود إلى 8 أيلول/سبتمبر، تاريخ نشر مقاله في "فورين أفيرز"، من الجدير الذكر أنه طرأ تحديث محتمل على الحصيلة: ربما أصبحت الآن، بالحد الأدنى، 59 حالة وفاة. فمنذ ذلك الحين، توفي أليكسي سينيتسين، مسؤول تنفيذي لشركة أسمدة في كالينيغراد، في ما اشتبهت السلطات بأنه انتحار. ويوم الأربعاء، تم الإبلاغ عن انتحار بوريس أفاغيان، مسؤول بارز في وكالة إدارة الممتلكات الفيدرالية في روسيا، بعد اعتقاله مع 20 آخرين بشبهة تهرب جمركي بقيمة 50 مليون دولار تقريباً. انتحر أفاغيان في حمام القنصلية الأرمينية بسانت بطرسبورغ بعدما هرب من المحاكمة. قبل ذلك أسبوع، انتحر ألكسندر تيونين وهو مسؤول في منشأة كيميائية مرتبطة بالجيش الروسي.
وعلى رأس هذه القائمة، على الأقل في الآونة الأخيرة، وزير النقل رومان ستاروفويت الذي انتحر في تموز/يوليو الماضي، بعد ساعات على إقالته من الوزارة بأمر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يستحيل حسم السببية بين كل هذه الوفيات وتداعيات حرب أوكرانيا. في تشرين الأول/أكتوبر 2022، وحين بلغ عدد الوفيات الغامضة نحو 15، قال الأستاذ الجامعي والخبير في الشأن الروسي برايان تايلور لموقع "فوكس" إن الرقم أعلى من أن يكون مجرد عشوائية، بالرغم من أن بعض الوفيات نجم فعلاً عن انتحار أو حوادث. وهناك أيضاً فرضية التنافس الشرس بين دوائر النفوذ المالي ضمن النظام الروسي.
"يلتهم نفسه"
في المحصلة، ثمة عطلٌ ما في هذا النظام "الذي بدأ يلتهم نفسه"، كما كتب كولسنيكوف. لم يعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يثق إلا بمن "يحمون" روسيا. من هنا، بحسب الصحافي نفسه، تبرز فرص للقادة الذين انخرطوا في الميدان الأوكراني كي يدخلوا الحياة العامة، في تذكير بـ "الخندقراطية" (Trenchocracy) أو "حكم من خدموا في الخنادق"، وهو تعبير صاغه موسوليني بعد الحرب العالمية الأولى. لكن بوتين يثق بالتكنوقراطيين في أعلى المراكز ومن المرجح أن يظل الأمر على هذا النحو.
فقد نجحت حاكمة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا، أول امرأة تتولى رئاسة بنك مركزي في مجموعة الثماني سنة 2013، في كسب ثقة بوتين، ومن المتوقع أن تخدم حتى سنة 2027 بحسب "رويترز". فهي عملت، على رأس مؤسسة بـ 40 ألف موظف، على تجنيب روسيا صدمة العقوبات، بالرغم من الصعوبات الحالية وتلك التي تلوح في الأفق.
وفي وزارة الدفاع، استبدل بوتين صديقه القديم سيرغي شويغو (ربما أيضاً لأسباب تربط مقربين منه بالفساد) بالخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف. أسس بيلوسوف فرعاً عسكرياً جديداً للأنظمة غير المأهولة، بما فيه وحدات "روبيكون" النخبوية التي ساهمت بشكل كبير في تحرير كورسك من قبضة القوات الأوكرانية، وفي الدفع البطيء للجيش الروسي شرق أوكرانيا.
الجملة المحبّبة... بصياغة مختلفة
بحسب كولسنيكوف، ولّد ظهور طبقة "الخندقراطية"، على ضآلة أهمية مناصبها، مستوى جديداً من القلق بين النخب الروسية.
ومشكلة النخب الروسية الإضافية الآن أنها، وبينما بدت الحرب متوجهة أساساً إلى أفق استنزافي مسدود، باتت تواجه احتمال وضع واشنطن ثقلاً أكبر في المجهود الحربي الأوكراني، بحسب تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثلاثاء، بالرغم من أن التصريح لا يزال بلاغياً.
من ناحية أخرى، ليست الخندقراطية الروسية، إن صح التعبير، صعوداً لطبقة على حساب طبقة وحسب. إنها إعادة حشد لكامل الإمكانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لروسيا كي تخدم الحرب وخنادقها في أوكرانيا. ويبدو أن هذه التعبئة ستكون طويلة المدى. في إشارة بسيطة إلى المستقبل الروسي المنظور، اقترح وزير الخزانة الروسي زيادة الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 2 في المئة ابتداء من سنة 2026، ومن المحتمل أن ينال المقترح موافقة بوتين. فالولايات المتحدة فرضت أيضاً ضرائب على أثريائها خلال حربي كوريا وفيتنام، كما قال.
بمعنى آخر، بات البيروقراطيون والسياسيون جزءاً من "الطبقة" الجديدة. وقلة ستحسد من هم خارجها، أو من لا يخدمونها بجدية.
لعلّ أشهر جملة قالها بيلوسوف وقرّبته إلى قلب مدوني الحرب الروس: "يمكنك ارتكاب الأخطاء، لكن لا يمكنك الكذب".
ربما تكون هذه إعادة صياغة لجملة أخرى يفكر بها بوتين، وسط سقوط آلاف الجنود الروس أسبوعياً بسبب الحرب:
"يمكنك ارتكاب الأخطاء، لكن لا يمكنك السرقة".