يوم استبدلت بريجيت باردو المجد بمعركة الدفاع عن الحيوان
لم تعرف بريجيت باردو التي رحلت اليوم عن 91 عاماً، التقاعد بالمعنى التقليدي. حين انسحبت من السينما عام 1973 في ذروة مجدها، أسدلت ستارة الشهرة قليلاً وفتحت باباً آخر، أكثر قسوة وأشدّ وقعاً. خرجت من الضوء لا هرباً منه، بل لتعيد توجيهه نحو كائنات تتألّم بلا صوت. وبعيداً من الكاميرات والعدسات، بدأت حياتها الثانية: حياة نضال لا تصفيق فيها، ولا أدوار مكتوبة سلفاً.
حين كتبت في كتابها الوصيّة "دموع النضال" عام 2017: "كان الشطر الأول من حياتي مسودة لوجودي"، مارست باردو اعترافاً أدبياً، وأعلنت قطيعةً مع صورة الأيقونة، ومع وهم المجد السريع. الشطر الثاني، كما تقول، منحها "إجابات عن الأسئلة" التي ظلت تؤرقها، وأولها: ما معنى أن تكون إنساناً في عالم يسيء إلى ما هو أضعف منه، الحيوان؟

قناعتها كانت حاسمة نهائية: الإنسان ليس مركز الكون، والحيوان ليس عبداً. استعباده وإهانته يجرّدان الحيوان من كرامته وينزعان من الإنسان جوهره. من هذه الفكرة البسيطة، المتطرفة في صدقها، انطلقت معركتها. وفي وثائقي بُثّ قبل وفاتها بفترة قصيرة، قالت: "كلما تقدّمتُ في العمر ازداد خوفي من البشر. أنا أكثر حيوانية مني بشرية".
تذهب باردو في دفاعها عن الحيوانات إلى أكثر من ذلك. في كتاب المذكّرات "مربّع بلوتون" (1999)، تستذكر يوم عرضت شقّتها في جادة لانّ الباريسية للبيع، وتروي أنّها علمت ذات مرّة أنّ داليدا، زميلتها وصديقتها التي كانت تُحبّ، كانت قد زارت الشقة. "قيل لي إنّها كانت ترتدي معطفاً رائعاً من الفرو"، كتبت، "وكان ذلك كافياً لأن أتّصل فوراً بالوكالة العقارية، مؤكّدةً لها أنّني لن أُسلِّم الشقّة لداليدا أبداً".
البداية.... 1962
في ذروة مجدها السينمائي، صدمتها صور مسالخ الحيوانات. "أصابتني بالذعر"، تقول. والذعر كان شرارة تحوّلت إلى فعل. خرجت إلى التلفزيون، ندّدت بذبح الحيوانات وهي واعية، ووصفت ما يجري بأنه بقايا عصور مظلمة. قابلت مسؤولين، طالبت، احتجّت، لكن الجدران بقيت صمّاء. تروي في إحدى مقابلاتها أنّها، لمّا كانت في موقع تصوير فيلمها الأخير "قصة كولينو المُلهمة والمبهجة" في أوائل السبعينيات، رأت امرأة تجرّ ماعزاً وتُهيّئه للذبح احتفالاً بابنها. صدمة، قلق وغضب. اشترت الماعز وأبقته في غرفتها بالفندق لإنقاذه.

التحوّل الرمزي جاء عام 1977، حين ظهرت على جليد القطب الشمالي، تحتضن صغير فقمة. صورة كانت كافية لتعلن ولادة باردو الجديدة. هناك، تقول، تعلّمت معنى "رسالتها" بصفتها مدافعة عن الحيوانات. ومنذ تلك اللحظة، صار لكل حيوان، مهما كان نوعه أو حجمه، من يتكلم باسمه.
دفعت ثمناً باهظاً. سُخِر منها، واحتُقرت، واتُّهمت بالمبالغة. لكنها لم تتراجع. شاركت حياتها مع صحافي جعل من عالم الحيوان قضيته، وقدّمت برنامجاً تلفزيونياً حقق نجاحاً لافتاً برغم توقيته الصعب. الريادة، كما كتبت، كانت مؤلمة، لكنها ضرورية.
امرأة لا تقبل أنصاف الحلول
عام 1986، أسست مؤسستها، وقدّمت لها كلّ شيء: اسمها، وقتها، وأموالها. انطلقت من غرفة صغيرة في بيتها في سان تروبيه، ثم تمدّدت إلى باريس، لتخوض معارك شرسة ضدّ الصيد، والتجارب المخبرية، والفخاخ، وحدائق الدلافين، ومصارعة الثيران. كانت تعرف كيف تستخدم صورتها سلاحاً: بيانات، مقابلات، رسائل مفتوحة، وضجيجاً محسوباً.

لم تتردد في مهاجمة رؤساء الدول، ولا في توبيخهم علناً. طالبت فرنسوا ميتران بوزارة مخصّصة لقضية الحيوان، وكتبت رسائل قاسية، وواجهت أنظمة كاملة بعناد امرأة لا تقبل أنصاف الحلول. تحوّلت إلى نباتية، واعتبرت بعض القضايا "معاركها الأخيرة"، آمِلة أن ترى نهايتها قبل أن ترحل. عام 2018 استقبلها الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، وفي نيسان/أبريل 2023، هاجمته في رسالة مفتوحة واصفة ايّاه بـ"رئيس الصيادين"، وكتبت: "بعد خمس سنوات، نعم أوبّخك يا إيمانويل ماكرون، لأنني غاضبة من تقاعسك، ومن جبنك، ومن احتقارك للفرنسيين (الذين يبادلونك ذلك، صحيح)"، متهمة إياه بعدم بذل ما يكفي من أجل قضية الحيوان.
لكن هذا المسار لم يكن بلا ظلال. مواقفها من بعض طقوس الذبح الدينية قادتها إلى إدانات قضائية، ووضعتها في قلب جدل أخلاقي وسياسي حادّ. كانت تدافع، أحياناً بعنف لغوي، عن فكرة واحدة، غير عابئة بثمن الكلمات.

حتى في سنواتها الأخيرة، واصلت الكتابة بخط يدها، مهاجمة تربية الحيوانات من أجل الذبح، وحدائق الحيوان، والمختبرات التي رأت فيها "أماكن للألم اللامتناهي". وفي تعريفها للجمال، في كتابها الأخير الذي صدر في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، اختصرت فلسفتها كلّها: "الحيوانات وحدها تحمله، من دون تكلّف".
برحيل بريجيت باردو تُطوى سيرة امرأة اختارت أن تستبدل التصفيق والنجومية بالمواجهة والالتزام الأخلاقي تجاه أضعف المخلوقات. لم تكن قديسة، ولا معصومة من الخطأ، لكنها كانت ثابتة في قناعتها. تركت لنا سؤالاً مفتوحاً، أكثر إزعاجاً من أيّ صورة: أيّ عالم نريد، وأيّ إنسان نكون، حين ننظر في عيون من لا يستطيع الدفاع عن نفسه؟
نبض