حسن الرفاعي... صلابة الدستوريين وآخر المراجع والمترهب للبنان الكبير
"حارس الجمهورية" رحل عن فائض كرامة، وفائض شجاعة، وفائض علم، وفائض مرجعية دستورية صارمة كما عن فائض عمر بلغ المئة وسنتين قبل أسبوع من رحيله.
حسن الرفاعي الذي ترهّب للبنان الكبير، وهو المولود أيام ترسيخ لبنان الكبير؛ هذه الصخرة الصلبة في تجسيد صفات الكبار الكبار، الذين رصّعوا تاريخ النخبوية اللبنانية في قامات منها ابن بعلبك كما الذين واكبوه وكانوا في مسار واحد من مثل غسان تويني وريمون إده وحسين الحسيني وآخرين قلّة، بقي حتى الرمق الأخير في موقع المرجعية العليا المهابة، التي نادراً ما قام إجماع لبناني على مواصفاتها المرجعية، علماً وتجرّداً، مثلما قام حول شخص ومهابة حسن الرفاعي لعقود بعد اعتزاله النيابة. هذا الصلب كان من شكيمة ريمون إده، خصوصاً في مواجهته المديدة للطبقة السياسية والزعامات الطائفية، بحيث رفض حتى رمقه الأخير التسليم إطلاقاً بكل مفاهيم الحرب الأهلية، وبأن اللبنانيين هم طائفيون، بل أراد التصويب التاريخيّ الحاسم بأن السياسيين أفسدوا لبنان بالفيروس الطائفي لمصالحهم.
وبما يوازي هذا النبض الذي طالما ميّزه وجعله منارة التائقين إلى تحرر لبنان الكبير من الطائفية كان حسن الرفاعي أحد كبار رموز لبنان الكبير السيادي، بل منارة سيادية تنبض بشجاعة نادرة تجلّت في معاركه المشرفة مع الوصاية السورية إلى حدود أن ابن مدينة الشمس انقطع طويلاً عن مسقطه ومدينته وأرضه وأرض أجداده لرفضه المرور على حواجز الجنود السوريين والتسليم بوصاية نظامهم على لبنان.
حسن الرفاعي الثائر – الحارس للدستور في آن واحد، هو الذي توّج ابنه المحامي حسان والزميلين أحمد عياش وجوزف باسيل الذين كان لهم الفضل في جمع مذكّراته وتقديمها إلى اللبنانيين والعرب بعنوان "حسن الرفاعي حارس الجمهورية"؛ حسن الرفاعي الكبير هذا وقف في مؤتمر الطائف وقفة تجسّد مساره تماماً بحيث رفض الاستمرار في اجتماعاته احتجاجاً على الوصاية الأميركية – السورية كما اعتبرها حينذاك، ورفضاً لأمور جوهرية اعتبرها منافية تماماً للأصول الدستورية والديموقراطية العريقة. كان يمكن أن تتفق مع حسن الرفاعي على أمور وتعارضه في أمور، ولكنك قطّ ما كنت لتقوى إلا على الانحناء أمام صلابته المبدئيّة التي لا يهادن فيها أمام أيّ خلل أو اعتلال أو تلاعب بالأصول الدستورية والأخلاقية التي جعلته أحد الرموز الشخصيين والسياسيين في مناهضة الفساد السياسي.

جمع الرفاعي في صفاته كما في مساره مشتركات كثيرة مع قلّة من نخب ورجالات الزمن الذي رغم اختراقه بحروب أحرقت لبنان لكنه لم يفقد نكهة عمالقة في الوطنية والتألق وإبقاء شعلة الأمل مضاءة أمام الأجيال اللبنانية الشابة برؤية هذا "الطراز" الفذّ من الرجال. ولأنه رحل بعزّ لحظة اشتباك الأمل الناشئ المتعاظم بوقوف مشروع الدولة على رجليه وانطلاقته نحو ترسيخ شيء من دولة كان حسن الرفاعي نذر مساره لقيامتها ومعالم الشد إلى الوراء لمنع الدولة من أن تكون دولة، قد يغدو أفضل الوداع لحسن الرفاعي أن نذكّر مَن عرفه ومن لم يعرفه، والأجيال التي تنحو إلى مجتمع سيادي متحرّر حرّ ينتج سياسة سيادية حرّة ونظيفة، ببعض من مآثر مواقف هذا الكبير الواردة في مذكّراته.
مرّة، وفي حديثه لوفد من بعلبك استفسره عن سبب انقطاعه عن زيارة المنطقة والاطّلاع على أحوال سكّانها قال: "إنني كممثل لأهالي منطقة بعلبك الهرمل، وبالتالي للشعب اللبناني في الندوة النيابية، وضنّاً بكرامة من أمثّل، لا أسمح لنفسي بأن يوقفني حاجز للجيش السوري ويطلب مني، وهو الدخيل وأنا المواطن الأصلي، إبراز هويتي، وتوجيه أيّ نوع من الأسئلة إليّ، والتي أعتبر أنها ليست من حقّه". ولمّا قيل له إن بقاء الجيش السوري في لبنان، ولا سيما في البقاع قد يطول، قال: "لن أذهب إلى البقاع طالما بقي في المدينة جندي سوري واحد. وبإمكاني أن أقوم بواجباتي تجاه أبناء منطقتي وأنا في العاصمة".
وقد وجدت في أرشيف الرفاعي مسوّدة بيان كان يعدّه ليصدر باسم " جبهة الاتحاد الوطني" مؤرّخ بـ 16 تموز. واللافت فيه أن الرفاعي كان قد أدخل عليه عبارة "وبما أنه من الأسباب الرئيسية لاستمرار القتال اليوم دخول الجيش السوري إلى لبنان بالشكل الذي حصل مانعاً عن الدور السوري صفة الوسيط، ما زاد المشكلات تعقيداً والقتال اتساعاً، وبما أنه لا بدّ لوقف القتال من إزالة هذا السبب… ".
في موقع آخر، وفي إشارة إلى الجدال الذي كان سائداً وقتذاك بفعل الانقسام الداخلي حيال الجيش ودوره بفعل قضية الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، قال الرفاعي: "إن الحكم ليكون حكماً صحيحاً قادراً على ممارسة سلطته لا بدّ له من جيش يكون أداة لتأمين هذه المتطلبات". وصرّح الرفاعي في 26 تموز 1978 أنه "لن يكون هناك أمن بدون قوة السلطة، ترافقها سلطة قضائية حرّة محميّة، ونحن اليوم نفتقد الأمن والقضاء".
قراءة الرفاعي للواقع السياسي اللبناني عشية اتفاق الطائف تلخّصت بالآتي:
1. ما نعيشه ليس وليد سنة 1975، إنما نتيجة تراكمات عديدة ونتيجة شذوذ في تطبيق النظام.
2. الممارسة كانت فاسدة منذ 1943.
3. سياسيونا سخّروا الدستور لمصالحهم نصّاً وعرفاً.
4. كرّر اقتراحه بتعديل دستوري لإدخال كلّ الأعراف إلى الدستور.
5. لقد خالفنا النص خدمة لمصالحنا، ولم نطبق الأعراف إلا عندما كانت تخدم زيداً أو عمراً.
6. نظامنا على عيوبك أفضل الأنظمة الديموقراطية.
7. التمثيل السياسي لم يكن يوماً عندنا سليماً (في إشارة إلى قانون الانتخابات والتزوير والرشى) .
8. يجب استعادة ديموقراطيتنا الصحيحة فتسود أحكام الدستور.
9. نظامنا جمهوري ديموقراطي برلماني، ولا يمكن أن يبقى لبنان ويستمر بلا هذا النظام بسبب حرماننا الأحزاب السياسية، وبسبب النظام الطائفي، علماً أن لا طائفية في لبنان بل مصالح.
10. أرجو السياسيين من خارج النواب عدم التنكّر لهذا النظام.
11. لا صلاحية لمن هو غير مسؤول سياسياً.
12. منذ سنة 1943، بدأت تزداد صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب بقية المسؤولين، فأصبح كالديكتاتور. لذلك بدأت المناداة بالمشاركة. كيف يمكن لرؤساء الوزراء المسلمين المطالبة بمشاركة من هو غير مسؤول، وبالتالي لا صلاحية له؟ إن الصلاحيات في يد الوزراء مجتمعين في مجلس الوزراء.
13. استرضى رؤساء الحكومات رؤساء الجمهورية الذين مارسوا صلاحيات ليست لهم. لم يربح رؤساء الجمهورية بذلك، بل خسر لبنان، ومن تنازل خسر، وخسر لبنان معه.
14. أريد علاقات طبيعية وليس علاقات مميزة مع سوريا.
15. هاجم أمراء السياسة، ورأى أن ممارستهم لا تؤمن عدالة في أيّ مضمار: لا في الاقتصاد ولا في الوظائف ولا تقيم دوراً للكفاءة.
16. لا يمكن أن نرجو من الغرب مساعدة لحلّ مشاكلنا، وهم مختلفون في ما بينهم.
17. يجب ألا نطلب من دول الغرب وفرنسا مساعدة في حل مشكلتنا، بل أجدى بنا أن نطلب من دول الغرب مساعدتنا على حل المسألة الفلسطينية.
18. تكلّم على سوء ممارسة الفلسطينيين في لبنان.
عن الطائف ما له وما عليه بالغ البعض في اتهامه والتجني عليه. فعلّق بقوله: "شنّت عليّ حملة من جميع الجهات، وحتى من النواب الأصدقاء الذين كانوا يقولون لي: "أنت لا تريد أن تقف الحرب في لبنان!"، فكنت أردّ عليهم: "يا جماعة، مَن قال إن صيغة الدستور اللبناني هي سبب الحرب في لبنان؟". ظنّوا آنذاك أن سبب الخلاف قضايا دستورية، وقد نسوا أن السبب الرئيس للاقتتال كان الموضوع الفلسطيني وما تلاه من نزاعات إقليمية ودولية على أرضنا.
تابع الرفاعي: "في اليوم التالي، اجتمعنا في حضور شخصين كان الأمير الفيصل استدعاهما للمشاركة في اللقاء، وعرف عنهما بأنهما حائزان شهادة الدكتوراه. وقال لي: "تفضل ، وقل لي ما هو رأيك القانوني؟"، فأبديت له رأيي في بعض البنود من الوثيقة أو الورقة المقدمة إلينا، فأجابني: "إذا لم تتفقوا ستعودوا إلى الاقتتال الطائفي!" فقلت له: "يا سمو الأمير، اللبنانيون ليسوا بطائفيين، فالسياسي اللبناني يسخّر الدين للوصول إلى مآربه ومنافعه الشخصية، فيما الأفكار المطروحة علينا، إذا نفّذت ستكون مصيبة، وإذا لم تنفذ ستكون كارثة!".
من محضر لقاء له في الخارجية الأميركية عام 1986:
بعد مقدّمة بروتوكولية بدأ الرفاعي الحديث بالفرنسية على الشكل الآتي:
"معرفة التاريخ تنير وتفسّر بعض ما يجري: المتديّنون المتطرّفون توجّههم إيران الحاقدة على العرب من ألف وأربعمئة سنة، همّها، تحت ستار الإسلام، محاربة الشعور القومي عند العرب… لا خوف من تفشّي الشيوعية في صفوف العرب، خاصّة اللبنانيين، لإيمانهم بالحرية وحبّهم لها.
إن اللقاء الممثل للسنة عامة، ولا سيما للمثقفين منهم، والذين ليس عندهم دون سائر طوائف لبنان عقدة القهر التاريخي، يؤمنون بالحوار لا بالعنف…لذلك هم موقنون أن الطريقة الوحيدة هي الشرعية الواعية العادلة.
دستورنا مأخوذ عن دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة إذا ما وضحت بعض الأمور فيه، وأدخلت فيه مفاهيم الأعراف الدستورية، هو على نقصه، أفضل الأنظمة للبنان. كلا، لا النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي ولا الكونفدرالية ولا الفيدرالية…تصلح للبنان. دستوره لا يعطي رئيس الجمهورية أي صلاحية "إيجابية"، فلا صلاحية لمن لا يحمل مسؤولية، ولا يمكن في لبنان تطبيق النظام الرئاسي الذي يفترض إمكانية محاسبة الرئيس…
لبنان لا يستمر إلا بالمحافظة على كل المقومات الآتية: الديموقراطية، والطائفية -طالما لا وجود لأحزاب سياسية صحيحة لا تقوم على أساس طائفي- والموارنة.
إن رئيس الجمهورية يجب أن يبقى مارونياً، وإلا فإن عمق سائر الطوائف يجذبها عاجلاً أو آجلا إلى سوريا ولا يعود ثمة مبرّر لوجود لبنان…
أكثرية الثمانين في المئة من اللبنانيين متفقة، والمختلفون هم حماة السلاح، وكلّ منهم مرتبط بدولة خارجية ويقبض منها.
إذا ما انسحبت إسرائيل من الجنوب فإن القوة الوحيدة التي يمكن أن تحمي الجنوب هي الجيش الشرعي الذي يعكس الآن خلافات السياسيين، فإذا ما اتفق هؤلاء يعود الجيش موحّداً.
السنة مع القضية الفلسطينية على أن تكون ساحة العمل من أجلها في فلسطين، وليس في لبنان، وعلى حساب المسلمين… المسلمون السنة ليسوا هم الذين وضعوا اتفاقية القاهرة بل وضعها رئيس ماروني …
وأجاب عن سؤال إذا كان الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب يحلّ قضية الجنوب: "حتماً، على أن تبقى القوات الدولية وتعزّز حتى يقوى جيش الشرعية ويوضع على الحدود. يجب التأكيد أن أيّ ميليشيا لا يمكنها قطعاً أن تحمي حدوداً! الجيش الشرعي هو وحده كفيل بحماية الحدود… ويجب أن يعلم أن أكثر أعمال الإرهاب التي تصدر من منطقة الشرق الأوسط تتخذ من وجود إسرائيل في لبنان ذريعة لأعمالها. انزعوا هذه الذريعة من الإرهابيين الذين نستنكر أعمالهم ولا نقرّها… وفي هذا عندها، خير للعالم ولكم ولنا.
حافظوا على لبنان الديموقراطي، ففي الأمر خدمة لكم في المنطقة… إن شعباً صغيراً تضافر العالم كلّه ضده لم يمت هو شعب يستحق أن يعيش، وإنه لن يموت…".
نبض