الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

عَربَدة في بيت الإنشاء

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
عَربَدة في بيت الإنشاء
عَربَدة في بيت الإنشاء
A+ A-

نَسْغُ الإبداع عَربدةٌ ومكابَرةٌ. ولكنْ بنفسك الرّضيّة ووجدانِك الخاذِل، لن تجرُأ أبدًا على رَمي الـمَعبد بالأحجار وقنانيّ الجَعة الفارغة. ستظلّ رهينَ الـمَحابس والصَّفعات. حتى هاتفُكَ الجوّال خانكَ وسقط في المرحاض فَضاعَت معه الصورُ التي أردتَ بها فضحَ المظالم. لم يَبقَ لك من سلاح تُشْهره في هذه الـمُبارَزة سوى جملٍ واهية. الـمُدير ثُعبانٌ وليس بإمكانكَ حتى مجرّد الاستنكار. كلماتُك ضعيفةٌ ولن تَصمد لحظةً أمامَ غُلوائه وسلاطته. ظللتَ تَتراجعُ خطواتٍ كلما تقدّمتَ خطوة واحدة. لم تعد تطاوعكَ ريشتُك البهية، تلك التي صوّرتَ بها، لسنينَ مضت، نِضال الكادحين. ها أنتَ اليوم تكتفي بتكرار صيغٍ ركيكة عن عدد السيارات الداخلة إلى المرآب ومواقيت وصولها. "لا تَنْسَ تسجيلَ أرقام لوحاتها ونبذةً، لا تتجاوز السطريْن، عن طَبيعة حُمولتها ومسارها"، يصيحُ في وجهك المدير الفظُّ. فتجيب باستكانةٍ: حاضر سيدي!

كانت طموحاتُك بعيدةً كالنجوم. صارت اليوم مسجونةً في حدود دفتر، تنسخُ فيه أرقام لوحات السيارات والشاحنات. ينقل قلمُك الـمُنهكُ ما يقوله السائقون: "حُمولة منسوجات قادمة من معمل كذا ووجهتها التصدير إلى بلد كذا". يُعيقُك الجُبْنُ الكامن فيك عن قلب الطاولة. لمَ لا تُندّد باستغلال هؤلاء العاملات اللائي يُهلكن أعْيُنَهن وأيديهنّ في نسج الخيوط الرقيقة مُقابل راتبٍ بخس. يمنعكَ من نفسك وهنٌ من أيام الطفولة. مقدار العَربدة لديك غيرُ كافٍ لتهشيم هذا الشبّاك الذي تَقبع أمامَه، كالكلب، عشرَ ساعاتٍ يوميًا. ولن يكفيكَ لاستبدال هذا الدفتر الأسود بدواوين الرِّفاق والشعراء. أصلاً، لم يبق رفاقٌ ولا شُعراء. جلُّهم فارقَ عالـمَنا الغارق في الضوضاء. مَن بَقي منهم تهرَّم وتقوَّس. ها هم يَقضون أوقاتهم، قابعين أمام مدخل المرآب يستَرجعون أيام الكفاح. صَفحتُك غير عَذراء ولا بيضاء. ولا تملك لذَّةَ تحبيرها. فقط تُلطّخها بتواريخ جافة في جَداول صمَّاء.

"ما عليك سوى ملء الفراغات والخانات. ولا تنسَ تسجيل ساعة الوصول مع السطريْن المنقوليْن من أفواه السائقين". ذاتُها نفسُ الجُمل تتكرّر مع كل شاحنةٍ تمرُّ بك. "لا تُضف شيئًا. فقط يمكنك التبليغ عن آراء السائق، أقصدُ السياسية، إن دَردَشَ معك قليلاً". مَزّقْ الدفترَ ولا تَتركْ هذه الخانات تسيطر على ذهنكَ. تجاوزْ طُرقَ الوشاية الـمُعبّدة واعبُر إلى أرضكَ البِكر. إلى متى وأنت باركٌ أمام هذا الشباك البلوري؟ حتّام ستَنقلُ تصريحاتهم بابتسامة مصطنعة وحركة آلية؟ مِنفضَة السجائر ملأى. لا تجد الوقت لتُفرغها. تنبعث منها روائح الرماد البارد. أسئلةٌ ملحّة تَجتاحك، فتهرب منها إلى قراءة صفحات الوظائف في الجرائد. عثرتَ ذات يومٍ على إعلان وظيفة شاغرة: "كاتب عمومي يَبحث عن مساعد تحرير. المطلوب: كفاءة في الإنشاء والتلخيص. الرجاء الاتصال سريعًا على رقم الهاتف...".

****

اتّصلتُ بالرقم المذكور. حدَّثتُه عن خبرتي. كان المدير مستعجِلاً فَلم يشترط أيَّ شيءٍ. وكنت مُرهقاً فلم أفاوضْ على شيءٍ. لا الراتب يَعنيني ولا الشغل سيُنسيني مرضَ أختي. هي أيضا كانت تَعمل في مصانع النّسيج المخصص للتصدير. ابتدأتُ الشغل بعد أيامٍ قليلة لإكمال ترتيبات إداريّة. عملي مساعدة "الكاتِب العمومي" في تحرير الرسائل الرسمية، كالشكاوى والـمَطالب وملء الاستمارات حسب نماذج جاهزة. تقتصر مهمتي على إعانة الزبائن الذين لا يُحسنون الكتابة الرسمية. يأتي الواحد منهم، يُفرغ جعبَتَه وأصوغ ما أسمعه ضمن القالب الذي تسمح به "مُواضعات الخطاب الرسمي". سُرعان ما خنقتني الصيغ الجاهزة وعبارات التفخيم الـمُكرَّرة. لم أعد أطيق السكنى في بيت الإنشاء. حاولت مرةً أن أضيف "لـمسة أسلوبية" في نَقل شكوى. نَهرني مدير المكتب. هو أيضًا ثعبانٌ. يَشطب أسطري بغلظةٍ وأحيانا يأمرني بإعادة الصياغة كليًا. "يا سيد! لا مجالَ لإنشائك هنا. اجعل مكاتيبَ الشكوى هزيلةً. لا أريدها أن تُدين الحكومة ولو من طرفٍ خفيٍّ. مَشاكل المواطن سببها الوحيد المواطن. هذه هي القاعِدة". أجبتُ باستكانة: حاضر سيدي ! بقيتُ في هذا العمل الآلي سنة كاملةً إلى أن عثرتُ على إعلان وظيفة شاغرة في موقع وزارة أملاك الدولة: "ديوان الوزير يبحث عن مساعد في قسم الكِتابة. المطلوب كفاءة في التلخيص... وشيءٍ من الإنشاء".

*****

أرسلتَ سيرتكَ الذاتيّة دون تحديثها. ببلادتك المعتادة، ركَّزتَ على فترة عَملك "كاتبًا" في المرآب. لم تعرّج على تجربتك لدى "الـكاتب العمومي". ومع ذلك، قُبِل طلبك دون مشقة وتَجاوزتَ المناظرة بسهولة. كان قلمكَ يومها سلسًا رغم ما أحاق به من الصيغ الجامدة. رئيس القسم: "ستقتصرُ مهمتكَ على تحرير كتابة بعض خطابات الوزير والمنشورات التي تبعث بها الوزارة إلى المديريات الجهوية. لا مَجالَ للأدب والأحاسيس. المطلوب لغة جافة، تحترم أسلوب المكاتبة الوزارية، أعني: تصدُّ المواطنين عن الملاحقة القانونية لهيئات "أملاك الدولة". مَشاكل المواطن سببها الوحيد المواطنُ. هذه هي القاعِدة". لمَ لا تُحاولُ قلبَ الطاولة وأنت ترى عيانًا العبثَ بأملاك الناس وأراضيهم؟ كان مديري يتابعُ نصوصي ويشطب أيّ كلمة يشتمُّ منها رائحة الانتقاد لفَخامة الرئيس أو لأسرته الـمُوسّعة. كان يُلاحق الكلمات وإيماءاتها البعيدة، كأنها مُجرمةٌ سافِلة. يَقصفها بِقلمه الأحمر وقد يحوِّرها فلا يترك منها سوى أشباح جملٍ غائرة، لا تَشي بشيءٍ. ومع ذلك، هيهاتَ أن تصيح بداخلكَ العَربدة أو يَتَهيَّج الصَّلفُ. مارستَ عملكَ كحفَّار قبور: تساعد في دفن الموتى مقابل دراهم وأرغفةٍ. وها أنت تدفُن مخائل التذمر التي ترد في شكاوى المواطنين. "أجِبهم بلغة خشبيّة وعيِّن الجاني دائمًا بينَ صفوفهم"، يصيح مديرُكَ. تكتفي بالتحديق في المراسلات وفي الإجابات التي تحررها بقلمك الغادر. "مهمتك أيضًا صياغة منشورٍ يوميّ، على موقع الوزارة، لـتَمجيد دولة المؤسسات والقانون"، دولتِنا العالـِمة الفَصيحة، المحافظة على البيئة وعلى القرآن وحتى على التراث الروماني.

******

قبل انتهاء العُهدة الرئاسية بسنة كاملةٍ، طلبَ مني المديرُ تحرير رسالة، باسم موظفي وزارة أملاك الدولة، لمناشدة فخامته أن يترشّح لولاية جَديدة. أظنها الرابعة. لم أفكر في قلب الطاولة، بل سخّرتُ طاقاتي الأسلوبية في تنميق مُناشدة جميلة، أمتدح فيها مآثر الدولة العلية وأذكُر إنجازات "العهد الجديد". خَتمتُ: "دون توجيهات فَخامتكم، سيَضيعُ البلد. بغير لَفتَتِكم الأبوية، الوَطن يتيم". غضبَ مديري وقال لي: "الرّسالة ثقيلةٌ جدًا. لغتها جافة. هذه تُكتبُ للشعب وليس لفخامة الرئيس، يا... أحمق، أهكذا تَتكلم مع رئيسك وتكتب إليه؟ ليس فيها شيءٌ من صدق المناشدة". فُصِلت من العمل بعد أقل من شهر لذَرائع واهية. عدت إلى بَلدتي. بعد يومين، التقيتُ بصاحب المرآب. لم يمانع في أن أستعيدَ الشغل في الأسبوع الموالي.

*****

استلقيتُ على سريري إثر يومٍ طويلٍ من كتابة أرقام لوحات الشاحنات في الدفتر الأسود. أرهقني الجلوس في مدخل المرآب عشر ساعاتٍ. زادت حركة التصدير. كانت وسادتي نتنةً من رائحة التعرّق. لم أجد وقتًا لتغييرها. وكانت الحشوة يابسة. انبعثت صورة أختي المريضة وعمّي ينتهرها بغلظة. كان عُمري عَشر سنواتٍ. نَظرت إليه صائحًا: "يا بشير لا تَظلمْ أختي !" هكذا بشكلٍ حاف، دون قول: عمي أو سيدي. وإذا بصَفعةٍ قاسية تَصعق خَدّي. لم أجد سبيلاً للانتقام سوى كتابة هذه الجملة: "عمي ثُعبانٌ". فإذا به يُنزل عليَّ لطمةً ثانية أهوت بي أرضًا. "يا كلب هكذا، تَتكلم مع عمك وهكذا تكتب".

من وقتها أدركتَ أنَّ لعَربدة القلم حدودًا.

اقرأ للكاتب أيضاً: لا رسائلَ على شاشة الهاتف

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم