الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حيث تكون هناك محاسبة تكون هناك دولة...

المصدر: "النهار"
من أمام مرفأ بيروت (أ ف ب).
من أمام مرفأ بيروت (أ ف ب).
A+ A-
نيكول حجل*
 
إنها القاعدة الذهبية التي تتحكم بالدول الديموقراطية المتقدمة.
في لبنان، انفجرت ثقافة عدم المحاسبة والإفلات من العقاب يوم 4 آب من العام 2020. في ذاك التاريخ المشؤوم ثبّت الانفجار خطورة لا بل استحالة العيش في مجتمع محصّنٍ ضد المحاسبة... في مجتمعٍ يعيث مسؤولوه وساسته فساداً من دون حسيبٍ أو رقيب.

لم تكن ثقافة اللامحاسبة وليدة تلك اللحظة التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ لبنان، بل تعود إلى عقود مضت... وخاصة بعد العام 1990، حيث تفاقم عدم المحاسبة في حقبة الوصاية السورية، وبعد انتهاء الحرب الأهلية وما نتج عنها من إخفاق في محاسبة المجرمين، الذي كان من شأنه أن حرم الضحايا حقوقهم في نَيل العدالة، وساهم في فقدانِ الثّقة بالمؤسسات الحكومية، وأسّس لمرحلة جديدة من التحايل على القانون من قبل الطبقة السياسية في لبنان، بعدما نجحت في تكريس ما أسماه المركز الدولي للعدالة الانتقالية: "فقدان الذاكرة الرسمية" بشأن الحرب أو ما يعرف بـ"عفا الله عما مضى". ولا شك أن سلسلة الاغتيالات التي شهدتها البلاد بعد العام 2005 والتي طالت شخصيات معارضة للنظام السوري وهيمنة حزب الله، والتي بقيت من دون محاسبة حتى يومنا هذا، كان من شأنها ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب في البلاد.


اليوم، ولبنان يقف على مفترق طرق، ما هو السبيل لترسيخ ثقافة المحاسبة وتحمُّل المسؤولية الفردية والعامة التي تقف العلاقات الشخصية والزبائنية حجر عثرة في وجهها؟

تتكرّس المحاسبة، والمساءلة عموماً، من خلال ثلاثة محاور: محاسبة السلطة التنفيذية، محاسبة السلطة التشريعية ومحاسبة الأفراد. وهذه المحاسبة لا تستقيم إلا من خلال قضاء مستقل.

أولاً، محاسبة السلطة التنفيذية من حكومة ورئيس جمهورية ووزارات وأجهزة وإدارات، من قبل مجلس النواب الذي يتمتع باستقلالية تامة يصونها القانون. فالمادة 39 من الدستور تنص على أنه "لا تجوز إقامة دعوى جزائية على أي عضو من أعضاء المجلس بسبب الآراء والأفكار التي يبديها مدة نيابته". هذه المادة بالتحديد أراد من خلالها المشرع حماية النواب طوال فترة أداء واجبهم في مساءلة الحكومة والسلطة التنفيذية، وطبعاً ليس التلطي وراء جرائم مرتكبة.

ومحاسبة الحكومة تصبح عملاً منتظماً فور الخروج من العقلية البائسة والسائدة في لبنان، بحيث عادة ما تكون الحكومة صورة مصغّرة عن المجلس النيابي، تحمل الولاءات السياسية والمصالح المستترة والعلنية نفسها، فتضيع حينها المحاسبة في دهاليز المصالح والانتماءات السياسية والحسابات الطائفية.
إن مجلس النواب يبقى الركن الأساس في الحياة السياسية وبالتالي المحاسبة والمساءلة، ويُشهد لميشال شيحا، المنظّر الأبرز للنظام السياسي اللبناني، قوله إنه في كل مرة غاب فيها المجلس وزال مبدأ التمثيل، حلت السلطة الطائفية الصرفة مكان المجلس، وبرزت على المسرح مجالس الطوائف.

وكي يسلك المجلس طريق العمل السياسي الشفاف، لا بد أن يستعيد النائب الدور الذي يكفله له الدستور من خلال التشريع والمراقبة والمحاسبة. فالنائب، مبدئياً، سيد نفسه منتخب من الشعب مصدر السلطات، ويجب أن يضطلع أولاً بهذا الدور وعدم الاكتفاء بأنه مجرّد عضو مسيّرٍ في كتلة نيابية تتحكم أهواء رئيسها بالقرارات والتوجهات.

ثانياً، محاسبة الشعب النواب في الانتخابات، فيصبح توزيع المقاعد في مجلس النواب نتيجة الأداء والمشاريع لا نتيجة تبدل التحالفات السياسية والطائفية وشد العصبيات المذهبية ولا رهن إرادة حفنة محدودة من الزعماء.

والمحاسبة الفعلية تتطلب مشاركة فاعلة من الشعب في العمل السياسي مع ضرورة التحرر من الأحزاب التقليدية والزبائنية التي تقيّده. فالمواطنة والتحرر من التبعيات الطائفية والمناطقية والعشائرية تؤسس لانتظام العمل السياسي في لبنان بحيث تصبح الدولة في خدمة الشعب وتخرج الولاءات من المصالح الذاتية الضيقة إلى رحاب المصلحة العامة والمواطنة الفاعلة والانتماء الوطني العام.

وكما في الديموقراطيّات العريقة مثلاً، لا تقتصر مشاركة الناخبين على يوم الانتخابات، إنما عليها أن تتجاوز ذلك إلى مراقبة ومتابعة ما يجري على مستوى عمل البرلمان والحكومة، والتواصل المستمر مع النواب، ليبقى هؤلاء على معرفة بمطالب المواطنين وتطلعاتهم، ومواقفهم من آداء السلطة، بحيث لا تبتعد السلطة في ممارساتها عن الشعب، ولا تقوم هوة سحيقة بين السلطة والمجتمع كما هو حاصلٌ في لبنان اليوم.

ثالثاً، المحاسبة على الأخطاء الفردية في المجتمع – أيّاً كان شكلها. وهنا أذكر تجربتي الشخصية التي سبق أن تحدثت عنها في الإعلام بالتفصيل.. تجربتي مع طبيب لا فرق بينه وبين الطبقة السياسية في لبنان. فهذا الطبيب غير الكفوء، الذي عالجني طوال فترة حملي والتي انتهت بموت ولدَي، لما كان ليخفي معلومات خطيرة عن حالتي الصحية ولما كان ليأخذ قرارات مصيرية بشكل منفرد، ولما كان ليمارس الإهمال والأخطاء الطبية، لو لم يكن على يقين من أنه يعيش في بلد تغيب فيه ثقافة المحاسبة... هو الذي عرفت أخيراً أنه ارتكب أخطاء جمّة واستهتر بحياة عشرات النساء وأولادهن فسكتن إما خوفاً من ردة فعل المجتمع الذي نعيش فيه، وإما بسبب عدم امتلاكهن منصة للتحدث علنا، أو إما لمعرفتهن بأن محاسبة هذا الطبيب صعبة المنال في ظل قضاء لطالما كان ولا يزال ضحية التدخلات السياسية والنظرة الضيقة للمصالح والحقوق المهنية والنقابية.

وفيما أتحدث عن معاناتي الشخصية، أنا على يقين من أن عدداً لا يحصى من المواطنات والمواطنين في لبنان هم ضحايا انعدام المحاسبة المهنية الصحيحة، ليس في قطاع الطب فحسب، بل تقريباً في كل القطاعات ونواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. والمثال الأفظع على ذلك هو تبخر ودائع اللبنانيّين وجنى أعمارهم وسقوط أغلبيتهم تحت خط الفقر بسبب انعدام المحاسبة في القطاعين المالي والمصرفي.

ولأن الإيمان يبقى بقضاء مستقل يشكل ضمانة رئيسة لتحقيق العدالة والمساواة وحماية حقوق الإنسان وصولاً إلى ترسيخ ثقافة وممارسة المحاسبة في المجتمع اللبناني على غرار المجتمعات المتطورة والمستقرة، حيث نرى من الطبيعي محاسبة سياسي أو طبيب أو مهندس أو مصرفي أو موظف فاسد، الأمر الذي لم نَره مطلقاً في لبنان، لا بدّ من الضغط بكل الوسائل لإقرار قانون القضاء المستقل الذي يحدّ من التدخل السياسي في التعيينات وفي العمل القضائي من دون أي تعديل يعود بالفائدة على الطبقة السياسية، علماً أن الفقرة الخامسة من الدستور تكرس مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية، والمادة 20 منه تكرس استقلال السلطة القضائية لإحقاق الحق.

الدستور هو إذن، متطابق نظرياً مع المعايير الدولية للمحاسبة وتحقيق العدالة. لكن في الممارسة، غالباً ما يكون العمل القضائي ضحية التدخلات المستمرة السياسية والطائفية والزبائنية في شؤونه.

ولعل ما نشهده في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت من مد وجزر بين قضاء مستتبع وخاضع للسياسة وقضاء مستقل يريد احقاق الحق والعدالة خير مثال على ثنائية لبنان التائه الذي يحتضر ولبنان العدالة والتطور وحقوق الإنسان الذي نرتجي ولادته في أقرب وقت.
 
*إعلامية لبنانية في قناة LBCI
 


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم