حقيقة 4 آب من فم أطفال بيروت

لا يزال الصوت المخيف الرهيب يسكن الأعماق، ولا يبارح المخيّلة. تلك الفقاعة الزهرية الهائلة تتراءى في المرايا، في الزجاج السليم، والمخدوش، والمحطّم. في العيون البريئة، في لحظات اليقظة، والأحلام والكوابيس.   
 
4 آب 2020، تاريخ يشبه البوصلة التي بدّلت مصائر أهل مدينة بيروت. في الشوارع المحطّمة رغم رفع الركام، يعاند ضحايا انفجار أمونيوم النيترات في مرفأ بيروت القدر في محاولات مستمرة لتجاوز تداعيات الكارثة، التي مثّلت ذروة ما يمكن أن ينتجه نظام فاسد يستسهل التفريط بسلامة شعبه والمقيمين على أرض لبنان.
 
4 آب هو يوم أزهقت فيه أرواح 220 ضحيّة، وجرح الآلاف، وتضررت فيه آلاف الوحدات السكنية والمؤسسات، وتشرّد الآلاف من أهلها. 3 أطفال قتلوا، وألف طفل جرحوا، و80 ألف طفل تشردّوا. أكثر من 200 مدرسة طاولتها الأضرار، وخسر تلامذتها ذكرياتهم في أماكن فيها. نحو مئة ألف طفل عانوا عوارض الصدمة بعد الانفجار… هؤلاء جميعهم يطالبون بالحقيقة، لكن المجتمع الدولي لا يتحرك بجديّة. لا يسمعهم. يصمّ الآذان عن معاناتهم والحقائق التي يروونها. في هذا العدد الخاصّ من "النهار" لمناسبة الذكرى السنوية الأولى للفاجعة، نريد أن يسمع العالم الحقيقة الخارجة من أفواه أطفال لبنان.   حقيقة العيش بخوف، و"خربان البيوت" الذي تعانيه الأسر وأطفالها، والخوف من تكرار الكارثة في أيّ لحظة ما دامت المنظومة التي أنتجت حدوثها، لم تتبدّل ولم تحاسَب بعد. وحقيقة أنّ بلدنا لم يعد يشبه لبنان الذي يُطلب من الأطفال كتابة جمل الإنشاء عنه. لبنان الجميل لا نجده إلا في دفتر رسم قديم، فما عادت مخيّلات الأطفال تنتج سوى رسوم عصبيّة وسوداء. تبدّلت صورة لبنان. الحقيقة أننا لسنا بخير ويزداد الثمن الذي يجب علينا دفعه يومياً. تكبر الفواتير المادّية والمعنوية كثيراً. وربما لن نكون بخير ما دام القاتل حرّاً طليقاً. وهذه أمّ الحقائق التي يتفوّه بها الأطفال.
 
‏‎ ينطق الأطفال بالحقيقة من دون مواربة. يعرفون جيّداَ ما عاشوه في ذلك اليوم الرهيب، وما خسروه، وما عانت منه مدينتهم، وما سيعانون منه الى الأبد. يحملون من أهلهم ميراث عقود الأزمات المتتالية، ويعيشون في حاضر صنوه الانهيار المالي والاقتصادي والخدماتي والتعليمي، ويترقبون مستقبلاً مجهولاً ترسم شبحه المخاوف المتعاظمة والمصير الأسود.  
  
في تقييم للحاجات أجرته (اليونيسف) وشركاؤها، بعد أيام من الانفجار، أفاد نصف المجيبين بأنّ الأطفال في أماكن سكنهم يظهرون تغيّرات في السلوك، أو علامات الصدمة، أو الإجهاد الشديد، عقب انفجار مرفأ بيروت. يمكن أن تشمل هذه السلوكيات والأعراض القلق الشديد، الهدوء أو الانزواء عن الأهل والعائلة، الكوابيس، ومشاكل النوم، والسلوك العدواني. كما أبلغ ثلث المجيبين عن أعراض سلبية لدى البالغين. 
 
كبر الأطفال قبل الأوان، وتحمّل بعضهم مسؤوليات تتجاوز أعمارهم. توجّب على صبّي صغير أن يتصل بوالده ليأتي وينقذ والدته المحاصرة تحت جدار قد تداعى. أمّا مريضة أخرى، فتغلّب عليها شعور بالذنب بعد إصابة أختها فيما لم يلحق بها أي أذى، ورفض مريضان آخران مغادرة منزلهما منذ الانفجار خوفاً من وقوع حادث آخر مماثل، وفق تقرير لـ"منظمة أطباء بلا حدود" تناول تأثير الكارثة على الصحة النفسية.
 
 زار فريق "النهار" منازل أطفال متضررين من انفجار المرفأ، وجالسهم في دردشات تمّت بإرشاد اختصاصيين نفسانيين. ومع كل زيارة، كان يتضح مدى تأثير تشابك الأزمات اللبنانية على حياة الأطفال الذين يرزحون تحت أعباء نفسية صعبة مستمرة، ولكن أيضاً يعايشون أثر الانهيار الاقتصادي وتهاوي الليرة على تقنينهم استهلاك حاجات الطفولة. نعم ثمة مَن درس أحياناً على ضوء الشمعة، ومن شُرّد من منزله، ومن حُرم شراء الألعاب التي يحِبّ، ومن قصَد أماكن الترفيه التي يهواها. يتعاظم فقدان أسس حقوق الطفولة والمواطنة مع عدالة لم تحقق بعد. وتعلو صرخة خسارة الأمان. 
‏‎


على مقربة من المرفأ في منطقة المدوّر، كان جوزيف ابن السنوات الثماني وأخته جيني ابنة الست سنوات، يدرسان في غرفة الجلوس في منزل جدتهما. 
 
‏‎في ذلك اليوم المشؤوم، جلب الطفل جوزيف "شاكوش جدّو" بهدف كسر الباب الذي أغلقه الركام، وانقاذ أخته الصغيرة جيني. يروي جوزيف القصة كأنّها أمس.
 
‏‎وفي حي السريان بمنطقة الأشرفية، تروي الطفلة مارغريت (١٣ عاماً): "قشطت ماما بالأرض، صرت صرّخ، يا عالم يا ناس، ما حدن كان سامع ولا حدن ردّ، نزلو الجيران دقّينا للصليب الأحمر ما في خطوط، وهيك من طابق لطابق الجيران كلّن منصابين".  
 
‏‎تبكي بحرقة وألم: "إمي هلّق بمركز دير السلام، صار عندا تلف بالدماغ من ورا الانفجار، ما بتقدر تحكي ولا بتتحرّك بس بتتطلّع بعيونها ".
 
في هذا العدد، دعوة إلى النظر في عيني مارغريت والأطفال الآخرين، والتمعّن في الحقائق-الصرخة  التي تكتبها قصصهم. نريد العيش بأمان ومحاسبة القتلة والمسؤولين عن صناعة الجحيم. حقوق الأطفال والإنسان أولاً.
 
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا
 
الحقيقة رقم 1: بعد ما حدا تعاقب عالجريمة
جوزي وسكاي
في حيٍ شعبي في المدّور، المنطقة المحاذية للمرفأ، تسكن عائلة زوين في الطابق الثامن من أحد المباني. لدى وصولنا ظهر المبنى مطلياً باللونين الأبيض والبنفسجي الفاتح، وسط مبانٍ، بعضها مرمم ومطليّ حديثا، وأخرى قيد الترميم. لكأن المنطقة تخرج من الدمار بعد عام على وقوع الانفجار المأسوي.

زوزو وجيني
على مقربة من المرفأ في منطقة المدوّر في بيروت، كان جوزيف إبن السنوات الثماني وأخته جيني إبنة الست سنوات، يدرسان في غرفة الجلوس في منزل جدتهما، في حين كان والداهما في منطقة جبيل.

الحقيقة رقم 2: خربولنا بيتنا
بيتر

وقف الطفل بيتر أبي رزق (5 سنوات) في 14 تموز من العام الحالي تحت شجرة الزيتون التي كان يلهو تحتها في منزل جدّه في منطقة المدور قبل انفجار 4 آب بدقائق، وروى قدر المستطاع وضمن قدراته التواصلية تفاصيل هذه الليلة المشؤومة.

إيللي
بين منزل الطفلة إيللي والعنبر رقم 12 أفق فارغ وضربة حجر. والدها إيلي الشايب أوّل من صوّرته الكاميرات مضرّجاً بالدماء على الأوتوستراد مقابل منزله في المدوّر، فكان جزءاً من المشاهد التي هزّت الرأي العام اللبناني والعالمي.


الحقيقة رقم 3: عايشين بخوف
مارغريت

إذا كانت كل من القنبلتين النوويتين في كل من مدينتي هيروشيما وناكازاكي قد أدت الى جفاف في التربة والنباتات وصحة الإنسان، فإن إنفجار بيروت بنيتراته القاتلة في 4 آب عكس صدمة عند الجيل الصغير الناشئ. مارغريت يونان، الفتاة البالغة 13 عاماً ونصف العام، مثلٌ صارخ.

أحمد ورائد
في أحد شوارع الكرنتينا، عاش رائد وأحمد لحظات، كانا هربا منها في بلدهما الأم سوريا. استقرا مع العائلة في بيروت واتخذاها مكانًا آمناً لهما، وتحديداً اختارا المكوث في بناية مواجهة لمرفأ بيروت، حيث يعمل الأب في مطعمٍ بالميناء البحري لتأمين حاجات الأسرة.

براءة ورند
هنا منطقة المدوّر في بيروت. هوَت أرض المنزل من الطبقة الثانية إلى الأولى في أحد المباني مقابل كنيسة السيّدة. تطايرت الشبابيك وسقطت السقوف، وخيّم الدخان الأبيض على المكان. شعرت الشقيقتان براءة (8 أعوام) ورند (14 عاماً) بالوَهن والهلع، ظنّاً منهما أنّ والدتهما مريم قد توفّيت. صراخ وبكاء قبل استعادة الوعي. المشهد كان كارثياً.

الحقيقة رقم 4: سرقوا أحلامنا
ماريا وإيليا

في منطقة المدور، تعيش عائلة قطاع، تداعيات انفجار 4 آب الذي خلّف وراءه خسائر وفوضى وذكريات مبعثرة. قصص كثيرة تسكن خلف هذا الحيّ، حيث دموع وأمل وإرادة لا تنهزم. في الطبقة الأولى، يعيش الطفلان ماريا (ابنة 6 سنوات) وإيليا (ابن الخمس سنوات)، ما عايشاه في ذلك النهار المشؤوم محفورا في ذاكرتيهما بصورة ضبابية غامضة.

إلسا
لم يمُت نسيبٌ من أنسبائها، إلّا أنّ ثمة نُدبة في ذاكرتها يصعب تجاهلها. عامٌ على الحدث- الصدمة، لا تُخفي إلسا فواز (8 سنوات) حزنها والقلق. نغمةٌ شاذّة من أزيزٍ ونشازٍ عبثت بتهويدة طفولتها. تجلس بقرب شقيقها جاد (7 سنوات) وتنحني بين طَرفة وأخرى على كتفه. كلاهما كبر قبل الأوان.

الحقيقة رقم 5: حالتنا مش منيحة
ألكسندر

في محلّة الكرنتينا الشعبية التي شهدت حروباً عدّة، تقطن عائلة بتروني التي عاش ربّ العائلة فيها الحرب وكان ممن دافعوا عن أرضهم ووطنهم حتّى الرمق الأخير. عند النظر لأول مرّة للمبنى حيث يسكنون، يُخال لكم أنّه حديث ولم يمرّ عليه تاريخ طويل من الدمار والحروب وثالث أقوى انفجار في العالم.

إيميليو
كان ينقص الصبي إميليو شابو ( 9 أعوام) تجربة إنفجار 4 آب لتكتمل فصول "الكأس المرة" في حياته. قدره أن يعيش مع سنده الوحيد، جدته لينا لحود بعيداً عن والديه لظروف عائلية.

الحقيقة رقم 6 : مش عايشين بأمان
سيبال

أضع يديَّ أسفل رأسي، أعدّ الخدوش في حيطان الغرفة، أهمّ بالنوم، أفكّر عميقاً في الظروف والأفكار التي جعلت طفلة ترمي لعبتها ذات الشعر الأشقر الطويل والفستان الزهري وتغنّي مستجديةً الطفولة.

نور وطالب
في أحد الأحياء الداخلية في منطقة الكرنتينا، كان طالب ونور ومنى عثمان يلعبون ويمضون فترة بعد الظهر في صالون المنزل بشكل طبيعي، قبل أن تتغير حياتهم بشكل كامل في نحو الساعة السادسة مساء.

الحقيقة رقم 7 : شو الحقيقة بنظرك ... ماريا وجورج
من دخل شارع فرعون المحاذي مباشرة لكنيسة مار ميخايل – طريق النهر، في تاريخ 4 آب 2020، بعد الساعة السادسة والربع، لن يعرف المكان الذي كان له ألف ذكرى وذكرى. الغبار السميك منتشر في الهواء، سيارات مدمرة بالكامل، رائحة الدم وبقعه في كل مكان، أبنية مدمرة، أسلاك الكهرباء مقطعة، صراخ استغاثة يأتي من تحت الركام، "ساعدونا"، "يا ابني وينك"، "عيني ووجي مش حاسس فيهن".