الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

تونس الثورة المؤجلة

المصدر: النهار - صبري الرابحي - تونس
تونس الثورة المؤجلة
تونس الثورة المؤجلة
A+ A-
عندما استفاق التونسيون من وهم عهد التحول المزيف والقافز على "جملوكية" الرجل المريض آنذاك والذي أداره زين العابدين بن علي باقتدار، تخيلوا لبرهة أن المشهد السياسي يستوجب صيانته متى سنحت الفرصة، وكان أن تفاجأ الجميع بهروب بن علي مدحوراً إلى منفاه الاختياري بتعليمات من صانعي اللعبة ضمن حبكة الربيع العربي المتهيئ لحلوله منذ أن دعته كونداليزا رايس من وراء حقيبتها للخارجية لأن يستسلم لسن تقاعده دون جدوى، متناسياً أن الأمن العالمي كان لسنوات لعبتها التي أتاحت لها نجومية سود أميركا من غير مغني الراب ولاعبي كرة السلة أو الملاكمة.عندما حطت الثورة أوزارها وكانت نوعاً مبتدعاً من الحراك الاجتماعي الثائر على الليبرالية المتوحشة الذي أصر الكونغرس على تحيته آنذاك، بأن وقف له إجلالاً كنوع من الرفاقية المستحدثة تماماً كحلقات التعارف الجامعية المملة، عندها وبالذات انقسم الشارع إلى نصفين يدعم نصفه الأول قيادة المرحلة من طرف الوجوه الكلاسيكية المعارضة المعمدة بالجدية والمثبتة بسنوات السجن والمراقبة الإدارية أو حتى الإجبار على النشاط في السرية، في حين يدعم النصف الثاني قيادة المرحلة من طرف رجالات بورڨيبة الذين يحرص مريدوهم على تمجيدهم متى سنحت الفرصة ومتى تهيأت الفرصة لنوستالجيا سنوات رصاص 78 وشهداء 84 وغيرها من جراح الوطن التي تبيح الذاكرة الجمعية تناسيها أو غفرانها على الأقل. في هذه اللحظة بالذات انبرت منظومة الحكم المتدثرة برداء السلم الأهلي لتفعل أفاعيلها في المشهد، فصار كل قدماء الساحة أزلاماً لا يصلحون إلا لقيادة الأحزاب - أحزاب الشخص من منطلق "الأصل التجاري - السياسي"، وهنا نجحت المنظومة في "تدوير" أركانها ودفعهم نحو فضاء الطهورية السياسية بواسطة عامل الوقت. غير أنه في تلك المرحلة تصدر المشهد معارضو بن علي من أمثال منصف المرزوقي ومحمد عبو ونجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وحمة الهمامي والكثير من التقدميين وأركان حركة النهضة طبعاً، وكان ذلك وفقاً لنتائج انتخابات 23 تشرين أول 2011 الشهير... كانت الخطة الثانية للمنظومة تقتضي إقصاء المستقلين واستئصالهم بسبب تيقنها من إفراغ الأحزاب من مضمونها السياسي والاجتماعي وتحولها إلى شركات للمناولة السياسية توفر العمالة لكل طرح سخي بغض النظر عن توجهه، غير أن هذه المنظومة استشعرت الخطر عندما فاز ياسين العياري بمقعد برلماني على حساب إبن الرئيس الوريث الشرعي لهذه المنظومة نفسها. و بالرغم من تسارع الأحداث، فإن الأحزاب السياسية في تونس ظلت منفصلة عن قضايا الشعب التونسي، فاختلطت المفاهيم والتسميات وتعددت التوافقات والتسويات حتى ضاع اليمين في اليسار وضاع اليسار في اليمين، وضل الإصلاحيون والمحافظون الطريق، فيما انشغل القوميون بمآل كرسي بشار الأسد وتفاصيل الصراع فوق الأراضي العربية السورية ومستقبل البعث في العالم العربي المنفتح على تحولات هامة يقودها أقزام الأمس القافزون على أدوار أكبر من أحجامهم. فعادت المنظومة إلى خيارها القديم وهو فسح المجال للمستقلين وترذيل العمل السياسي الحزبي من خلال توجيهه نحو معارك لم تعد تعني التونسيين في شيء ساعة لم يعد يفرق بين أزلام العهود الغابرة. وفي هذه اللحظة بالذات سمحت المنظومة لقيس سعيد أن يتجرأ على وكلائها في الحكم وتركت له كرسي الرئاسة شاغراً أمام دهشة التونسيين من ضحالة المستوى الفكري والسياسي لنظيره نبيل القروي العابث بجوع الشعب والمتسلق للمشهد بعقد اللوبيينڨ المشبوه مع عميل الموساد الشهير وهو ملف قبر ولا يجوز عليه إلا النسيان. ثم أتت مرحلة حكم قيس سعيد المخيبة للآمال من جميع النواحي حتى استنهاضه لهمة مريديه ذات مساء 25 حزيران على أمل تركيع المنظومة وإرغامها على الانخراط في مسار إصلاحي يرسمه الرئيس بذهنية المواطن البسيط وليس السياسي المحنك، ما أنتج هذا المشهد المشوه والرديء الذي نرى. ولعل كل ما يحدث يصب في خانة إعادة ترذيل النظام للمستقلين والمارقين عن الهيكلة الكلاسيكية لرجال الأحزاب الذين اختار لهم بعناية تسمية "رجال الدولة". يبدو أن توجه المنظومة لن يخرج عن إقصاء المستقلين وإعادة ترتيب المشهد وتهيئته لأباطرة السياسة أو للجزمات الغليظة التي قد تنقض على وطن جريح لم يفلح في لملمة جراحه بواسطة أبنائه مجتمعين كانوا أو متفرقين حتى بتنافر أقطابهم. ظلت الساحة إذن سانحة لتغيير اللاعبين فحتى قيس سعيد نفسه المنتشي بجماهير ليلة 25 بدأ في خسارة حزامه "المواطني" كما يدعي، هذا الحزام الذي أسس لمساره الإصلاحي الذي عمده بشعار "الشعب يريد"، هذه الخسارة مردها تثاقل خطوات الرئيس في ساعات الحسم المفترض لإحراج الرأي العام الدولي وإقناعه عنوة برجاحة خياره "الشعبي" وهو ما أنتج تبعات واسعة داخلياً وخارجياً.
ففيما لم يلاحظ التونسيون أي انفراج للأزمة الاقتصادية والاجتماعية ولا حتى أي بوادر لليالي السكاكين الطويلة المحكمة على الفاسدين لاحظوا في المقابل تراجع الرئيس عن إلتزامات الدولة التونسية تجاه المعطلين عن العمل الذين طالت بطالتهم، فالرئيس اتخذ من القانون المنظم للسلطات مؤقتا مطية لإعادة تنظيم إلتزامات الدولة وحتى ترتيب أولوياتها ووجد نفسه تلقائياً في مواجهة مباشرة مع شريحة مهمة ومؤثرة في المشهد السياسي. ومع اقتراب شهر كانون الأول بلياليه الشتوية الباردة وبدفء رمزيته لدى التونسيين ساعة ألهبت شعاراتهم المطلبية الساحات والفضاءات العامة، يجد التونسيون أنفسهم في نفس المكان عدا مراكمتهم لعشرية موشحة بكثير من العنف السياسي والاقتصادي اللذين أنهكا هذا البلد الذي لم يعد يتحمل مثل هذه الصراعات الدونكيشوتية حول إرادة مفترضة للشعب. وبالرغم من أن جل التحركات الاجتماعية أثبتت أن هذا الشعب يعرف جيداً خارطة الطريق إلى مطالبه الاجتماعية بالأساس فإنه يصطدم كل مرة بأشكال متنوعة من الوصاية على إرادته ومناورات النظام في توجيه مطالبه لتصبح سياسية بالأساس حسب موازين القوى المتحكمة في المشهد. من المؤكد في تونس أن المشهد السياسي مازال منفتحاً على كل السيناريوات، غير أن دراما الثورة المتواصلة والتي يراد لها أن تكون مستنزفة لآمال هذا الشعب، أثبتت في كل مرة صلابة إرادته رغم كل العواصف التي مر بها دون أن يضيع البوصلة نحو تونس جديدة تليق به ويليق بها.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم