الخميس - 02 أيار 2024

إعلان

في ظهور الدول القديمة وانهيارها

المصدر: "النهار"
منى فياض
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
يستعرض جيمس سكوت جميع مساوئ الدولة لدرجة يشعر معها المرء وكأنّه يريد إعادتنا إلى مجتمعات الالتقاط والصيد، ممّا يجعلنا نتساءل: "هل يُمكن تخيّل كرة أرضيّة مختلفة من دون تجمّعات بشريّة وأطر منظّمة ومؤسّسات، ومأهولة فقط من صيّادين وملتقطين؟".

فبالنسبة له غيّر التدجين التكوين الجيني وشكل الأنواع المزروعة والحيوانات الموجودة في المساحة البيتية، وجعل، تساكن النبات والحيوان والإنسان، الذي يميّز الحواضر الزراعية، منهم معوّقين وغير قادرين على العيش من دون عناية وحماية مستمرّتين، كما يجد أن نطاق التجارب التي تميّز الوجود الزراعيّ أضيق وأفقر في المجال الثقافيّ والطقسيّ. 

لكن جوزف هنريش، مُنظِّر ثقافيّ تطوريّ، يقدّم مجموعة واسعة من البيانات النفسيّة والفسيولوجيّة والعصبيّة الحديثة لدعم وجهة النظر القائلة بأنّ عمليّتين مترابطتين لكنّهما متميّزتان شكّلتا الطبيعة البشريّة، وجعلتاها فريدة من نوعها، التطوّر الثقافي التراكميّ والتطوّر الجينيّ المدفوع بالثقافة. فمن خلال استخلاص رؤى من المستكشفين الأوروبيين، والشمبانزي الذكي، والصيّادين المتنقّلين، والعظام القديمة، واكتشافات علم الأعصاب، والجينوم البشري، يوضح هنريش كيف دفعت أدمغتنا الجماعيّة التطوّر الجيني لأنواعنا وشكّلت بيولوجيتنا، كما أنتجت قدراتنا المبكرة على التعلّم من الآخرين الابتكارات الثقافية، مثل النار والطهي وخزانات المياه والمعرفة النباتية وأسلحة المقذوفات، التي بدورها أدّت إلى توسّع أدمغتنا وغيّرت علم وظائف الأعضاء وعلم التشريح وعلم النفس بطرق حاسمة. في وقت لاحق، قامت بعض العقول الجماعيّة بتوليد مفاهيم قويّة وإعادة توحيدها، مثل الرافعة والعجلة والمسمار والكتابة، مع إنشاء المؤسّسات التي تستمرّ في تغيير دوافعنا وتصوّراتنا. هذا يوضح كيف أن علم الوراثة وعلم الأحياء لدينا متشابكان بشكل لا ينفصم عن التطوّر الثقافيّ. 

وبالتالي، يصعب تصوّر عالم مختلف فقط بافتراض عدم وجود دولة والبناء على ذلك. فالسؤال المغيّب عند "سكوت": كيف سيكون شكل الكرة الأرضية بناء على إضاءاته؟ وهل كان ممكناً حينها أن يكون سكوت هو نفسه مثلاً في شروط تلك الظروف؟ ففي سرديّته لا يوجد أيّ إشارة إلى صعوبة أو مخاطر نمط العيش في عالم الصيد والالتقاط. أذكر أنّني عندما شاهدت فيلم عمر أميرالاي الذي كان قد أخرجه في مطلع السبعينيات عن نمط عيش القبائل في صحراء سوريا، عاينت صعوبة العيش عندما "نعود إلى الطبيعة"، كما يقترح سكوت، وكيف تعاني النساء من أعمال شاقّة لتأمين الطعام، كطحن الحبوب وتحضيرها وعجنها وخبزها وصعوبة إشعال النار والحفاظ عليها. 

زادت الحرب الأهليّة قناعتي، خصوصاً الوضع الحالي من انهيار الدولة في لبنان، وانقطاع الخدمات التي اعتادها البشر في العقود الأخيرة، في أن أحداً لا يمكن أن يستغني عن الأدوات التي تتوافر حالياً لرفاهيّة البشر، حتى سكوت نفسه في مزرعته الطبيعية. إنه يناقش دور الدولة من موقعه كأستاذ ومثقّف أنتجته هذه اللحظة التاريخية بكل حسناتها وسيئاتها. 

وهنا، يسجّل هنريش الحيرة أمام البشر الذين يجدون صعوبة في البقاء بمفردهم في البريّة. وغالبًا ما يفشل الفرد في التغلّب حتى على التحدّيات الأساسية، مثل الحصول على الطعام، أو بناء الملاجئ، أو تجنّب الحيوانات المفترسة. مع ذلك أنتجت المجموعات البشرية تقنيات بارعة ولغات ومؤسّسات معقّدة سمحت لها بالتوسّع بنجاح في مجموعة واسعة من البيئات المتنوّعة. 

فما الذي مكّننا من السيطرة على الكرة الأرضية، أكثر من أيّ نوع آخر، بينما بقينا بلا حول ولا قوة كأفراد وحيدين؟ إن سرّ نجاحنا لا يكمن في ذكائنا الفطريّ، ولكن في أدمغتنا الجماعيّة، وفي قدرة المجموعات البشرية على الترابط الاجتماعي والتعلّم من بعضها البعض عبر الأجيال. يترك الآباء حمضهم النوويّ لأبنائهم، لكنهم - جنبًا إلى جنب مع نماذج أخرى مؤثّرة - ينقلون أيضًا المهارات والمعرفة والقيم والأدوات والعادات. 

وبالتالي، افتراض عالم مختلف من دون تجمّعات بشريّة تقوم بتدجين النبات والحيوان سيعني القضاء على كلّ ما نراه حولنا، أي عودة إلى عالم بدائيّ للحفاظ على الكرة الأرضيّة المهدّدة من البشر! أعتقد أنّه سيناريو مستحيل! 

يحق لسكوت أن ينتقد الدولة بأدوارها القمعيّة وسياسات رجالاتها وتجّارها ورأسمالييها وصنّاع وتجار الأسلحة وعمالقة العالم الرقميّ (آغفا) الأقوى من الدول، والمؤثرين على سياساتها، ممّا جعلنا نعيش في عالم موضة الاستهلاك المجنون لجميع الموارد، بما يهدّد وجود الكرة الأرضيّة. 

لكن شيطنة الدولة كمؤسّسة، وتفضيل العيش من دونها، شيء آخر. يُمكن إدانة سياسات الدول، عدا عن أنّ عالمنا الحالي يتكوّن من أنواع عدّة من الدول التي تُدير شؤونها بأشكال مختلفة جداً، وبعضها أقرب إلى العدالة (مستحيلة التحقق) من غيرها. 

مع ذلك من المفيد الاطلاع على أفكاره حول الدولة وتشكّلها. 

فما هي الدولة؟ وكيف أصبحت الدولة دولة؟ 

من وجهة نظره، مجتمعات ما بين النّهرين القديمة لم تصبح دولة إلّا بالتدريج. وعبر استمرارية مؤسّسيّة ترتكز إلى "دولة نوعاً ما" أكثر ممّا هو تعارض قاطع بين دولة ولا دولة. فإذا وجد ملك، وهرميّة اجتماعيّة وجهاز إداري متخصّص وأسوار تُحيط بالمدينة وآليّة جمع ضرائب، نصبح أمام دولة بالمعنى القويّ للعبارة. 

لم يبرز هذا النوع إلّا في القرون المتأخّرة للألفية الرابعة قبل الميلاد. 

وجدت قبل ذلك مجتمعات مأهولة بشكل معقول مع تبادل تجاريّ وإنتاج حرفيّ وتجمّعات مدينيّة من دون أن تتجمّع فيها كلّ مقوّمات الدولة. 

كل شيء يدلّ على أن الدولة لم تظهر إلّا في المناطق الغنيّة. لكنّه يرى أنّ للإكراه دوراً كبيراً في ولادة وحياة الدول القديمة، ويجده موضوعاً خاضعاً للجدل، لأنّه يضرّ بالسردية الكلاسيكيّة أو التقليديّة لتقدّم الحضارة. فإذا برهنا على أن تشكّل أولى الدول كان يعود إلى عملية إكراه بشكل كبير، توجّب إعادة النّظر بمفهوم الدولة عند "لوك" و"هوبس" منظّرا العقد الاجتماعي، والقطب الجاذب الذي لا يقاوم للسلم المدني، وللنظام الاجتماعي والأمن الشخصي. 

لكن الملاحظة هنا أن أعمال "هوبس" و"لوك" تنظّر لتنظيم العلاقات في دول وطنيّة كردّ على التجارب شبه الدولتيّة والإمبراطورية المتنوّعة على امتداد تاريخيّ طويل، ولتطوّرها وتحسينها، وربّما كردّ على ما ينسبه لأرسطو في العالم القديم من اعتباره الاستعباد "أداة عمل" تماماً كما الحيوان أو عربة الجرّ. 

والاستعباد بلغ أوجه في اليونان الكلاسيكية، وفي أوائل أزمنة روما الإمبراطورية. لذا يقترح Owen Lattimore أن السور العظيم في الصين كان مزدوج الوظيفة، يمنع غزو البرابرة كما يمنع دافعي الضرائب الصينيّين من الهرب. 

إذن شرط حياة الدول الأولى كان الاستعباد. ويقرّ بأنّها لم تخترعه، لكنّها نظّمته ودوّنته كمشروع دولتيّ. مشكلتنا الأساسية إذاً مع الاستعباد واللاعدالة، وهي وجدت قبل الدولة، ومنذ ان بدأ البشر بتكوين جماعات. 

أمّا كيف تسقط الدول، فلقد أسَالَ المؤرّخون الكثير من الحبر لتفسير "سقوط" الدول أو انهيارها. الأسباب عموماً متعدّدة، وتحديد سبب واحد مقرّر يعدّ اعتباطياً. كمثل حالة المريض ضحيّة أمراض عدّة كامنة، ممّا يصعّب تحديد سبب الوفاة. فعندما يتسبّب الجفاف بالمجاعة، ثمّ المقاومة والنزوح السكاني، تتعرّض حينها المملكة للاجتياح والنّهب وإبعاد السكّان؛ فأيّ سبب سيعتبر كأساسيّ أو مركزيّ؟ إن نقص الأرشفة، لأن الكتبة يهربون في أزمنة الانهيار، لا يسهّل الأمور. 

برأي سكوت هناك 3 خطوط تصدّع. 

بالدرجة الأولى، الجائحات المرضيّة مثلما نعاين مع كوفيد، التي نتجت عن التجمّعات غير المسبوقة للأنواع المزروعة، للبشر وللحيوانات، كما للطفيليات وللعوامل المسبّبة للأمراض التي ترافقها. 

يقترح سكوت أنّ سلسلة من الأمراض، بما فيها التي تصيب الثقافة، كمسبّب ممكن لعدد من الانهيارات (سقوط الدول) الفجائيّة، مع صعوبة إثبات ذلك. 

وفي المقام الثاني والثالث، يجب ذكر الآثار الإيكولوجية الأكثر ضرراً للتمدّن والزراعة المرتكزة على الرّي الكثيف. فنلاحظ من ناحية إزالة الغابات المتدرّجة للحوض المائيّ الموجود على منابع الدول النهريّة ما يستجلب انسدادات وفيضانات، مثل ظاهرة ملوحة الأرض ونقص الإنتاجية وترك الأراضي الصالحة للزراعة. 

من ناحية أخرى، يجب إعادة التفكير في تعبير "انهيار" عند تعيين تراجيديا حضاريّة تصيب عدداً من الممالك القديمة وإنجازاتها الثقافيّة. إنّ عدداً من هذه الممالك كانت في الحقيقة كونفيدراليّات لجماعات أصغر، ومن الممكن أن تعني كلمة "انهيار" العودة إلى تشرذم الأجزاء التي تكوّنها، حتى ولو عادت واتحدت مرة أخرى لاحقاً. 

وحتى في حالة ما يزعم أنه انهيار عائد إلى تمرّد ضريبي، أو رفض للأعمال الشاقة والتجنيد الإجباري، برأيه علينا الاحتفال، أو على الأقلّ عدم التأسّف على نظام اجتماعيّ قمعيّ؟ 

فهل علينا الاستغناء عن شكل الدولة حقاً لأنّها قمعيّة؟ وهل  المجتمعات من دون مؤسّسة الدولة، تسود فيها العدالة؟ 

أم هناك إمكانيّات أخرى؟
 
 
نُشر أيضاً في موقع "الحرة".
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم