الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

معركة عين دارة وبوصلة الدروز

المصدر: النهار
مكرم رباح
الدروز في لبنان (أرشيفية).
الدروز في لبنان (أرشيفية).
A+ A-
في ربيع سنة 1711 وفي شهر أيار بالتحديد تواجه كل من الحزب القيسي والحزب اليمني في خراج قرية عين دارة في جبل لبنان، في معركة شرسة ودموية غيّرت الوجه السياسي والاجتماعي لهذا الالتزام العثماني، الذي أداره الدروز تحت سلطة المعنيين، قبل أن يتحوّل إلى أخوالهم من آل شهاب، أمراء وادي التيم.

نُقل الصراع القيسي اليمني مع القبائل العربية التي استوطنت بلاد الشام وقسمت القبائل والعشائر الى قيسيين ينحدرون من شمال الجزيرة العربية، ويمنيين من جنوبه، وأصبحت تلك الحزبية أساس الصراعات السياسية في المشرق وفي جبل لبنان بالتحديد. ففيما كان هذا الصراع يضمّ الدروز دخل المسيحيين ضمنه بعد القرن السادس عشر، تاريخ هجرتهم إلى جنوب جبل لبنان بدعوة من أمير الدروز فخر الدين المعني.

الفريق اليميني نجح بقيادة الشيخ محمود بو هرموش وبمساعدة والي صيدا ودمشق في عزل الأمير حيدر الشهابي الذي حظي بدعم القاعدة القيسية وزعماء الدروز والمشايخ الأقوياء، كآل أبي اللمع والعماد وتلحوق والقاضي، الذين دعموا الأمير حيدر وأعادوه من منفاه، وخاضوا معه معركة عين دارة التي انتهت بإعدام أمراء اليمنيين وجلاء العائلات اليمنية من جبل لبنان إلى موطنهم الجديد في جنوب شرق دمشق في محافظة السويداء.

الانتخابات النيابية في قضاء الشوف وعاليه وفي وادي التيم وأماكن وجود الدروز التي جرت قبل أسابيع، أتت نتائجها صاعقة وحاسمة لتكون معركة عين دارة جديدة، تؤكّد خيارات إحدى الطوائف المؤسّسة للكيان اللبناني. فالاقتراع لقوى المعارضة بطبيعة الحال لم يقتصر على طائفة دون الأخرى ولكن في حالة الدروز أتى ليشكّل بوصلة سياسية في المعركة المستمرّة لاستعادة الدولة من حكم السلاح والفساد.
في هذا السياق صوّت الدروز لقياداتهم السياسية التاريخية، وأعطوا أصواتهم للحزب التقدّمي الاشتراكي وآل جنبلاط الذي يعتبره الدروز "سياج الطائفة"، كما صوّت الفصيل اليزبكي كعادته للأمير طلال أرسلان، ولكن الاقتراع هذا لم يكن كافياً في وجه لوائح التغيير التي نالت حصّة كبيرة من أصوات الدروز ومنهم من يُعتبر تاريخياً من مناصري البيت الجنبلاطي.

الصوت الدرزي لقوى التغيير ليس بتفصيل بسيط، بل هو رسالة واضحة على أولويات المرحلة القادمة، وهي رسالة استوعبتها بشكل واضح قيادة الحزب الاشتراكي، التي بدأت المعركة الانتخابية بمهاجمة قوى التغيير، قبل أن تستوعب المزاج العام وتقرّر عدم إطلاق النار السياسي تجاه قوى التغيير، بل التركيز على "حزب الله" وسلاحه وما يشكّله من خطر على الدروز وعلى لبنان عموماً. تلك الخطوة سمحت لمرشحي التغيير وعلى رأسهم مارك ضو بأن يتمكنوا من التحرك ضمن قرى الجبل بدون خلق أيّ حزازيات مع الأحزاب التقليدية.

لم يفز مارك ضو ورفاقه من التغييريين بمعركتهم بفضل تصويت أيّ من الأحزاب التقليدية، كما يزعم البعض، بل فازوا لأنهم تبنّوا خطاباً سيادياً إصلاحياً يتجاوز فترة الانتخابات، خطاباً صادقاً ينضح بكلمات كمال جنبلاط، ويطالب ببلد مدني عصري تسوده العدالة الاجتماعية وحكم القانون. فالاقتراع لقوى التغيير أتى ممّن قاطعوا الانتخابات في السابق، بسبب اعتراضهم على الأداء السياسي للبعض، أو بسبب عدم اكتراثهم للسياسة عموماً، ولكنهم وصلوا الآن إلى اقتناع بأن امتناعهم في مثل هذه المرحلة هو جريمة بحق جماعتهم ووطنهم.
من عادات الدروز السياسية أن يقوم كبير العائلة بالتشاور مع مكوّنات عائلته للوصول إلى قرار يحدّد اتجاه الاقتراع بالانتخابات، وهي أشياء راقبتها كيافع مع جدّي لأمي، الذي كان يطلب عادة من العائلة أن تقترع مناصفة للبيتين السياسيين التقليديين، في عرف استطعت أن أقنع جدّي بتغييره عام 2005. في الانتخابات الحالية، هذه العملية انقلبت رأساً على عقب، فقام كبار السنّ باستشارة الشباب من مناصري "التغيير" وكانوا منذ بدء الثورة في تشرين 2019 على رأس القيادة السياسية للعديد من المجموعات التي قادت الحراك.

بالرغم من عددهم القليل نسبياً، امتاز الدروز بحنكة سياسية مرتفعة جعلت من خياراتهم السياسية الشجاعة والشرسة أحياناً نبراساً لأيّ من المجموعات اللبنانية الأخرى للنجاة من أيّ أزمة وجودية. في السابع من أيّار 2008 عندما اتّخذ "حزب الله" قراره بالهجوم على قرى في جبل لبنان، توحّد الدروز لردّ المهاجمين، وبعث رسالة واضحة لمختلف الطوائف اللبنانية عن أهمّية التضامن السياسي بوجه عدوان خارجي اعتقد بأن السلاح قادر على اقتلاع جماعة امتهنت البقاء.
في الانتخابات الحالية مارس الدروز رياضتهم المفضّلة – البقاء – في وجه مشروع إيراني توسّعي، يعتبر الدروز وموطنهم عقبة لوجستية في أي مواجهة عسكرية مستقبلية، فصوّت قسم منهم الى الحزب الاشتراكي المتمرّس بالعمل الميداني العسكري والسياسي كنوع من الوفاء، واقترع قسم منهم لخطاب عصري سياسي تقدّمي.

يبقى الأهم أن يتذكر الجميع، أن اقتراع الدروز ليس مناورة سياسية فحسب، بل هو خريطة طريق للنجاة من السقوط الأخلاقي والسياسي الكبير الذي تمر به البلاد، والذي يجعل من الضروري الانتقال بالخطاب السياسي السيادي والإصلاحي إلى حيّز التنفيذ عبر رفض التطبيع مع السلاح في حالة القوى الدرزية التقليدية، أو في اعتبار الإصلاح الاقتصادي باب الحلّ كما يروّج له البعض.
لدى الدروز قول عند اشتداد المصاعب "ما بقى بدها" كدعوة إلى العمل، وهي تصلح للجحيم الذي يمرّ به لبنان، والذي يجعل من الضروري على الطوائف الأخرى أن تحتكم للعقل، ولمنطق الرهان على الدولة وإنهاء الشواذ الذي أدخله السلاح على الفضاء اللبناني.
 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم