الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كيف قد "يضرب" صعود الصين الاستقرار النووي العالمي؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
صواريخ بالستية صينية، 2019 - "أ ب"
صواريخ بالستية صينية، 2019 - "أ ب"
A+ A-

مرّ 77 عاماً على قصف الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناغازاي بالقنبلة النووية في مثل هذه الفترة (6 و 9 آب 1945). أنهى ذلك القصف الحرب العالمية الثانية مفتتحاً نظاماً ثنائيّ القطبيّة شهد تكديس أميركا والاتحاد السوفياتي آلافاً من الرؤوس النووية. في خضمّ الحرب الباردة، هدّدت واشنطن وموسكو بعضهما البعض باللجوء إلى السلاح النووي لحلّ الخلافات في غير مرّة. الأزمة الأخطر وقعت سنة 1962 مع نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ نووية في كوبا قبل أن تنتهي باتفاق أميركيّ-سوفياتيّ في اللحظات الأخيرة. أسدل التاريخ الستار على  الحرب الباردة بدون أن تعاني البشرية من عواقب حرب نووية. يرى البعض أنّ "الحظّ" ساهم في إفلات سكّان الأرض من حرب كهذه. ربّما لعب الحظ دوراً كهذا. لكنّه لم يكن وحده كافياً بالتأكيد. هنالك قول منسوب للفيلسوف الروماني سينيكا عن الحظّ: "إنّه ما يحدث حين يلاقي الاستعداد الفرصة". إلى جانب المبادرات الديبلوماسية أجرى الخبراء الاستراتيجيون مجموعة حسابات معقّدة لمنع تحوّل الردع النووي إلى هجوم نووي. فالخطّ الفاصل بين كلا النطاقين لم يكن دوماً شديد الوضوح. اليوم، تحافظ الولايات المتحدة وروسيا على أكبر ترسانتين نوييتين في العالم بما أبقى على الثنائية القطبية النووية. لكن يرجّح أن تخرق الصين هذه الثنائيّة فيتحوّل العالم إلى نظام ثلاثيّ الأقطاب النوويّة. تداعيات ذلك ليست سارّة، وفقاً لتحليل خبير الشؤون الدفاعية والباحث البارز في "معهد هدسون" أندرو كريبينيفيتش.

 

"عقربان في زجاجة"

انطلق كريبينيفيتش في مقاله الذي نشرته مجلة "فورين أفيرز" من الحسابات التي سادت خلال الحرب الباردة والتي دفعت إلى نوع من الاستقرار جنّب العالم كارثة محدقة. مع تعزيز الاتحاد السوفياتي ترسانته النووية، هدفت واشنطن إلى تحقيق القدرة على الرد بضربة نووية ثانية بعد امتصاص ضربة سوفياتية أولى. سنة 1964، حدّد وزير الدفاع الأسبق روبرت ماكنمارا القوة النووية المتبقية بعد الهجوم بـ400 رأس نووي كقاعدة للحديث عن إمكانية شنّ عملية انتقامية مدمّرة. القدرة التدميرية تلخّصت في قتل 25% من سكان الاتحاد السوفياتي وهدم 50% من قدرته الصناعية.

من جهته، شبّه الفيزيائي روبرت أوبنهايمر التهديد النووي بين الجبّارين بعَقربين محبوسين في زجاجة مياه. كل عقرب قادر على قتل الآخر لكن مع خطر عظيم بأن يتعرّض هو للقتل أيضاً. هذا هو مفهوم "التدمير المؤكد المتبادل".

 

خياران بغيضان... ماذا عن الثالث؟

أدخل أستاذ العلوم السياسية والأمن النووي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد توماس شيلينغ مفهوماً أخطر على طبيعة العلاقة النووية بين القطبين. كانت العلاقة تشبه أكثر رجلين مسلّحين يتبارزان في بلدة قديمة من الغرب الأميركي. يخشى المتبارز أن يسحب منافسه المسدّس في وقت أسرع، بالتالي عليه أن يسبقه إلى إطلاق النار. هنا، تكمن الخشية في أن يصبح أيّ منافس "الضعيفَ الثاني" لأنّه "لم يبادر أولاً" إلى القتل. عزّز هذا الخوفَ بروزُ نظام التوجيه للرؤوس النووية وإمكانية نشر عدد من تلك الرؤوس على صاروخ أو نظام تسليم واحد.

بحسب هذا التصوّر، للدولة الضحية خياران بغيضان: ضرب ترسانة الخصم مع فرص ضئيلة بالنجاح لأنّ القوة النووية المتبقية قد لا تكون كافية. أما في حال الرد على اقتصاد ومجتمع الدولة المعتدية فقد يكون ذلك فعلاً انتحارياً. ثمة خيار ثالث للضحية يقضي بعدم الرد وذلك من أجل الاحتفاظ بالقوة النووية الرادعة لأي هجوم ضد مجتمع الدولة المعتدى عليها. لكنّ تفوّق المعتدي النوويّ يدعم المزيد من الاعتداء على أي حال. الخشية من أن تكونا "الضعيفَ الثاني" دفعت واشنطن وموسكو إلى ترك بعض قواتها النووية في حالة تأهّب. كان هدف ذلك زيادة المخاطر على المعتدي المحتمل عبر التمتع بقوى قابلة للإطلاق قبل أن يتم تدميرها. حمل ذلك تهديدات من نوع آخر إذ أخطأت أنظمة الإنذار المبكر مرات عدة عندما رصدت تحرّكات اعتبرتها تهديديّة. مع ذلك، سمحت القطبية النووية الثنائية بتفادي الانفجار وفقاً لكريبينيفيتش.

 

صعود الصين... "الفوضى" آتية

بعد الحرب الباردة، قبلت أميركا وروسيا بخفض ترسانتيهما النوويتين إلى نحو 1550 رأساً نووياً على قاعدة أنّ ذلك يواصل تأمين سمتي الاستقرار اللتين حكمتا الحرب الباردة إلى حد بعيد: التكافؤ في القوى النووية (منذ سنة 1969) و"التدمير المتبادل المؤكد". علاوة على ذلك، كان عدد هذه الأسلحة بعيداً جداً عمّا تمتّعت به سائر الدول النوويّة. لكنّ الصين دخلت على الخط بقوّة، حيث من المتوقّع أن تملك ألف سلاح نووي بحلول 2030 وهي ترفض إجراء محادثات للحد من انتشار هذا السلاح. إضافة إلى ذلك، يمكن تحميل الصواريخ أكثر من رأس نوويّ واحد (حتى 10 في الصين أو 15 في روسيا)، لهذا السبب قد تتمكّن الصين من جمع 3000 رأس نووي بحلول ذلك التاريخ.

مشكلة القطبية النووية الثلاثية بحسب كريبينيفيتش أنّها تشبه نظام الأجرام الفلكية. حين يكون هنالك جرمان فلكيان متقاربان، بإمكان علماء الفضاء توقّع علاقتهما الديناميّة بالاستناد إلى قوانين الجاذبية. لكن حين تتقارب ثلاثة أجرام فلكية أو أكثر من بعضها، يكون هذا النظام قد دخل حالة "فوضى". في هذا النظام، تزداد الخشية من أن يصبح أي طرف "الضعيف الثاني".

 

سلسلة لا متناهية من المشاكل

أولاً، سيكون على كلّ قوّة أن تردع قوتين بدلاً من واحدة. والردع في المفهوم الصينيّ Weishe مختلف عمّا هو في الولايات المتحدة. هو يحمل معنى منع الطرف الآخر من الهجوم لكنّه يضيف إلى ذلك القدرة الإكراهية على دفعه إلى القيام بسلوك يناسب الصين.

وفي نظام ثلاثيّ الأقطاب النوويّة، لا يمكن تحقيق التكافؤ أبداً. بما أنّ على واشنطن مثلاً أن تردع موسكو وبيجينغ عن مهاجمتها بدلاً من ردع موسكو فقط، سيكون عليها رفع ترسانتها الحالية بـ 1550 رأساً نووياً إضافياً ليصل مجموعها إلى 3100 رأس. وسيكون على روسيا والصين الإقدام على الخطوة نفسها فتدخل القوى الثلاث في حلقة مفرغة من زيادة مطّردة للرؤوس النووية (بعد خطوتي الصين وروسيا سيتعيّن على أميركا تأمين 6200 رأس نووي وهكذا دواليك). كذلك، لن تكون القوة المتبقية المفترضة (400 سلاح نووي) كافية لتأمين "التدمير المؤكد المتبادل". وهذا بدوره يجبر الدول على زيادة ترساناتها النووية لضمان بقاء ما لا يقل عن 800 سلاح لتأمينه. وثمّة مشكلة إضافية في هذا العدد وفقاً لقاعدة ماكنمارا. لكل دولة جغرافيا وأعداد سكان مختلفة عن الأخرى. فروسيا تحتاج مثلاً إلى كمية أكبر من الصواريخ لتضمن التدمير المتبادل مع الولايات المتحدة والصين بالمقارنة مع ما ستحتاج إليه الأخيرتان، بما أنّهما تملكان عدداً سكانياً أكبر بكثير من ذاك الذي تملكه روسيا.

ويبرز عامل آخر مزعزع لاستقرار نظام الردع النووي العالمي. إذا هاجم طرف أول خصمه الثاني، فسيصبح الأوّل ضعيفاً أمام الطرف الثالث بما أنّه استنفد جزءاً من ترسانته النووية. ويذكّر كريبينيفيتش بأنّ الخشية من "الضعيف الثاني" ليست نابعة من خيارين بين مهاجمة الآخر وإمكانية التعرض للدمار أو عدم مهاجمته والبقاء آمناً، بل هي نابعة من خياري إطلاق النار أو التعرّض لإطلاق النار.

إذا وجدت الولايات المتحدة مثلاً أنّ هنالك هجوماً صينياً وشيكاً عليها فستستنتج أنّها فشلت في المهاجمة أولاً وبالتالي أخفقت أيضاً في إمكانية ردع روسيا. وحتى لو تعرّضت الولايات المتحدة لهجوم واحتفظت بالقدرة على التدمير المؤكد المتبادل ستكون مكشوفة إلى حدّ كبير أمام المزيد من الإكراه أو الاعتداء من موسكو وبيجينغ. وبما أنّ الأخيرتين محكومتان من أنظمة أوتوقراطية فقد يكون اللجوء إلى الهجوم النوويّ أسهل ممّا هو عليه الوضع في الدول الديموقراطية حيث تعمل النقاشات الداخلية على التخفيف من نزعة أيّ رئيس مغامر.

 

سباق تسلّح وإشادة غير متوقّعة

في نظام ثلاثيّ الأقطاب النوويّة، دائماً بحسب كريبينيفيتش، ستفقد مظلّة الردع النووية الأميركية صدقيتها ممّا يدفع حلفاء واشنطن إلى خوض سباق جديد نحو التسلّح للدفاع عن أنفسهم، كما أنّ زيادة الأسلحة النووية الصينية ستدفع الهند إلى تسلّح جديد، والأمر نفسه ينطبق على باكستان. وقد تقرّر الصين أيضاً أنّ تسليح حليفتيها كوريا الشمالية وباكستان مزيّة إضافيّة لها الأمر الذي يفاقم هشاشة الاستقرار العالميّ. إنّ تخزين دولة من الدرجة الثانية 500 رأس نوويّ فقط قادر على أن يزعزع أكثر أمن العالم.

ودعا الكاتب الولايات المتحدة إلى بدء تحديث ترسانتها النووية لأنّ ذلك قد يحافظ أكثر على صلابة الردع وربّما يحفّز موسكو وبيجينغ على دخول محادثات جديدة للحدّ من التسلّح. وعلى عكس ما يتبادر للوهلة الأولى، وفي مقابل تعزيز الصين وروسيا لأنظمة التسليم ذات الرؤوس النووية المتعددة، أشاد كريبينيفيتش بالخطط الأميركيّة الجديدة لنشر أنظمة تسليم ذات رأس نوويّ واحد لكلّ نظام. يقول الخبراء إنّ المهاجم يحتاج إلى ما بين رأسين وأربعة رؤوس نووية لضمان تدمير صومعة واحدة لدى العدو. وهذا ما يجعل الهجوم أقلّ جاذبيّة بما أنّه سيترك ترسانة المهاجم أضعف بعد الضربة. تحميل كلّ نظام تسليح عدداً من الرؤوس النووية كما هو المسار "غير المشجّع" لدى روسيا والصين يبقى فعالاً أكثر على مستوى الضربة الأولى، وهو سبب إضافيّ لجعل الردع النوويّ الأميركيّ أقلّ جاذبيّة كهدف.  

 

"من التاريخ"

في الخلاصة، لا يرى كريبينيفيتش أنّ الصدام النوويّ في نظام دوليّ ثلاثيّ الأقطاب النوويّة أمر حتميّ. لكنّ منع انفلات الأمور في هكذا نظام سيصبح ببساطة أصعب. وإن كانت الثنائية القطبية النووية قد نجحت في تدارك الأسوأ، على الرغم من أنّها كانت أقلّ استقراراً ممّا ظهر، فإنّها أصبحت اليوم "من التاريخ". تشاؤم كريبينيفيتش، إن كان هذا التوصيف ممكناً، يكمن في أنّه لا يعتقد بوجود إمكانيّة لتلافي نظام ثلاثيّ الأقطاب النوويّة. ففي نصائحه إلى واشنطن، دعا المسؤولين إلى إيجاد الوسائل اللازمة للتعويض عن سمات الاستقرار المفقودة مع تآكل الثنائيّة القطبية، وإلى منع الثلاثية القطبية النووية من التحول إلى تعدّدية قطبية نووية كاملة.

بالفعل، إذا كان النظام الفلكيّ الثلاثيّ الأجرام فوضويّاً ولا يمكن التنبّؤ به، فبالإمكان تخيّل حجم الفوضى في نظام متعدّد الأجرام.

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم