الأربعاء - 01 أيار 2024

إعلان

كريم بقرادوني "مؤرخاً وشاهداً" لحليفه: "ميشال عون رجل التحديات" (1) "حرب التحرير": أطلب وقفًا لإطلاق النار... أعرفُ أنّي خسرْتُ

المصدر: "النهار"
ميشال عون وسمير جعجع.
ميشال عون وسمير جعجع.
A+ A-
صدر قبل أيام آخر مؤلفات وكتب احد اكثر اللاعبين والسياسيين اللبنانيين اثارة للجدل المحامي كريم بقرادوني الذي خص "حليفه" رئيس الجمهورية السابق ميشال عون بهذا الكتاب تحت عنوان "ميشال عون رجل التحديات" . يقع الكتاب في 584 صفحة من الحجم الوسط وصدر عن دار كنعان للنشر والتوزيع ويتوزع على خمسة أقسام وخاتمة . يحرص المؤلف كريم بقرادوني في مقدمة الكتاب على التنويه بان "الجنرال على علم باني في صدد اصدار كتاب عنه غير انه لم يطلع على مضمونه قبل صدوره وكل ما ورد فيه هو على مسؤوليتي الشخصية ويعبر عن وجهة نظري حول مسيرة ميشال عون ومساره. وليكن واضحا للقارئ أني لست في صدد كتابة تاريخ ميشال عون بل في صدد ما سمعته من أقوال وشاهدته من أفعال منذ ان تعرفت به للمرة الأولى عن طريق بشير الجميل في العام 1980 ".

تنشر "النهار" في ثلاث حلقات مقتطفات ومختارات من ثلاثة أقسام في الكتاب بمعزل عن أي تقويم مهني او سياسي مسبق للكتاب الذي قد نخصص له لاحقا حلقة منفصلة ، بل فقط لمجرد الإضاءة على هذا الإصدار الجديد لبقرادوني الذي يعد من اوثق حلفاء الزعيم والرئيس الذي كتب عنه علما ان السرد التفصيلي للوقائع يغلب على الكتاب .المقتطفات في الحلقة الأولى هي عن "حرب الإلغاء".

"….في هذه المناخات المشدودة صعدْتُ للمرة الأولى في 8 كانون الثاني 1990 لزيارة الجنرال عون برفقة جبران تويني. ولجنا القصر من الباب الخلفي في اتجاه الطبقة السفلى التي حوّلها عون مقرًّا رئاسيًا مُحصنًا، تحتشد فيه كوكبة من المرافقين بالثياب المرقطة، واكبونا إلى غرفة فيها طاولة صغيرة وثلاثة مقاعد والعلم اللبناني. بعد هنيهة، دخل علينا الجنرال، وهو يمضغ بعضَ الطعام، فسلّم علينا وسألنا ببساطته المعهودة هل تعشّيتم فشكرناه. جلس إلى جانبنا وأبدى رغبته في الاستماع. تحاشيتُ العواطف التقليدية في مثل هذه الحالات، وتعمّدت الولوج إلى الموضوع الذي آليت على نفسي العمل في سبيله وهو تحاشي الصدام بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية.

لم يجبْني عون مباشرةً على طرحي، وتعمّد أن يشرح لي أن مشكلتَه الحالية هي الحصار المضروب عليه من أربع جهات دفعةً واحدة: الحصار الأوّل مسيحي تديره القوات اللبنانية بموافقة بكركي وبعض النواب المسيحيين، الحصار الثاني لبناني أمرَ به الياس الهراوي وحكومة الحص والميليشيات المؤيدة لسوريا وهم يُحيطون بي من كلّ جانب ويمنعون عني أيَّ إمداد، الحصار الثالث عربي تقيمه سوريا التي تستخدم جيشها للاستفراد بالأزمة اللبنانية، والحصار الرابع دولي تقوده الولايات المتحدة التي تحول دون تدخّل الاتحاد السوفياتي وأوروبا وبالتحديد فرنسا والفاتيكان لمصلحة لبنان. ألحق الجنرالُ تعدادَه هذه الحصارات بتقويم سريع له : "الحصار الدولي لا يُخيف. الحصار العربي يتعثّر. الحصار اللبناني اخترقته تحتَ عنوان التحرير والسيادة والتوحيد فالتقيتُ مع الطرف الآخر. يبقى الحصار المسيحي، وهو الأصعبُ، وأحاول إسقاطَه عن طريق الشعب، لا بل إن الشعب هو الذي سيسقط".

صمت الجنرال هنيهةً قبل أن يكاشفنا بالقواعد التي تسيّره فقال "لو وافق الشعب على اتفاق الطائف لكنتُ استقلت فورا. كما لو لم يؤازرني الجيش في حرب التحرير لكنتُ تركتُ القيادة منذ البداية. ثم حدّقَ بي ليفهمني أنَّ ما سيقوله الآن هو في صلب الموضوع الذي يهمّني: يجب أن يتذكر سمير أنّ كلّ واحد يمشي باتفاق الطائف يصلُ إلى القبر”. لم أفهم مراد عون وسألته هل يشير إلى اغتيال رينيه معوّض أم أنه يوجّه تهديدًا إلى سمير جعجع، أجابني: “أبدًا، هذا كلام قلته لسمير مباشرة، وأريد أن تذكره به متى تلتقيه." وأضاف: مصيبتي مع سمير أني أتعامل معه كحليف، وهو يتعامل معي كمغتصب. يجبُ أن يفهمَ أن لا مصلحة له في إسقاطي لانّه لا يقدر أن يرثني".

لم يقف عون عند موضوع جعجع بل تناولَ كل الطبقة السياسية التي تضحّي بالوطن لضمان مصالحها الخاصة، وخَلُصَ إلى نتيجة واضحة: “لا أفهمُ عليهم ولا يفهمون عليّ. في المقابل أنا فهمان على الشعب، والشعب فهمان علي".

بعد هذا الاجتماع، توجّهتُ إلى مقرّ سمير جعجع في الكرنتينا وأطلعته على تفاصيل اجتماعي مع عون، فعلّق قائلًا: القتالُ مع الجنرال صعبٌ والتفاهم معه أصعب، فلننتظر ونرَى. عندذاك بان الخلاف بين جعجع وعون أكبر من أن توقفه بعضُ النيات الحسنة.

في 31 كانون الثاني1990، وقعَ ما كنتُ أخشاه نتيجة خلاف نشب حول مدرسة قمر في فرن الشباك، وهي مدرسة رسمية حوّلتها القوات اللبنانية إلى ثكنة. غير أنَّ حكومةَ عون قرّرتْ ترميم هذه المدرسة وفتحَ أبوابها مجددًا أمام التلامذة، وأرسلت لهذه الغاية مجموعة من العسكريين الذين اصطدموا بعناصر القوات اللبنانية المتواجدة داخل هذا المقرّ، وعلّق عون قائلًا: “لم يعد في إمكان أحد أن يفتح جيشًا على حسابه، وكلما زعل من أمر يحملُ البندقية وينزل إلى الشارع”، واستطرد: “إنّ الجيش اللبناني هو لكلّ الشعب اللبناني بمن فيه المسلحون الذين هم خارج إطاره”."

انفجر القتال على محاور عدة ، وكأنّ الكل كان متأهبًا ينتظرُ الشرارة الأولى ليبدأ بالقصف. تمدّد الجيش في مناطق بعبدا والمتن وبيروت وحاذرَ الدخولَ إلى الأشرفية، وسيطر على محاور الضبيه وداريا والقليعات. من جهتها، أحكمت القوات سيطرتها على منطقتي جبيل وكسروان، بما فيها ثُكنة أدما التي أقام فيها الجيش معهدًا للتعليم بحماية سريّتين من المغاوير جرى إخلاؤهم مع عتادهم بإشراف لجنة الوساطة المؤلّفة من الأباتي بولس نعمان والمحاميين شاكر أبو سليمان وجورج عدوان.

لم يتمكّن أيّ طرف من الحسم لمصلحته، فانقسمت الشرقية إلى شرقيتين، وكان القتال بينهما أكثر ضراوة من القتال بين الشرقية والغربية. طاوَل القصفُ المتبادل الأحياءَ والقرى، فحصد في أيامه الأولى أكثر من 116 قتيلًا و 427 جريحًا، وغادر الشرقية 400 ألف مواطن في اتجاه المناطق اللبنانية الأخرى أو إلى خارج البلاد. وأدّى القصف إلى وقوع أضرار جسيمة بالممتلكات والمتاجر والمصانع، واشتعلت الحرائق في المنازل والسيارات، وأقفلت المدارس والجامعات أبوابها. وتصاعدت الاتهامات والاتهامات المضادة بضراوة لم تشهدها النزاعات من قبل(…..)

أثناء توسطي بين الجنرال والحكيم كنت أصارحهما بأنّ ثمن القتال بين الجيش والقوات غالٍ جدًا في الأرواح والأرزاق والسياسة، وعلى الرغم من خلافاتهما فإن مصلحتهما التفاهم تحت طائلة سقوطهما معًا في حال استمر القتال بينهما. وأخبرتُ الجنرال للمرة الأولى أني تنحيتُ عن موقعي في القوات بعد تعيينه رئيسًا للحكومة الانتقالية لخلاف طرأ في علاقتي مع سمير، ولخشيتي من أن أكون فريقًا وقد اخترتُ أن يكون دوري توفيقيًا، وسأستمر في محاولاتي التقريب بين الفريقين ولو كان الأمر شبيهًا بمن يفتش عن إبرة في كومة من القش.

لم يغلق الجنرال باب الحوار، وأخبرني أنّه لم يصل بعد إلى نقطة اللارجوع، وهو يدرك أنّ سوريا تريد إسقاطه وجعجع ووصفهما بـ“السيّىء والأسوأ”، وأضاف: “أحيانًا أكون أنا الأسوأ في نظر دمشق وأحيانًا يكون سمير”.

في 25 أيار 1990 أطلق قداسة البابا يوحنا بولس الثاني صرخة مدوية دانَ فيها حرب الشرقية وأعلن ثلاثية الإنقاذ: “كفى قتالًا. كفى عنفًا. كفى آلامًا”. في أثر صرخة البابا، أعلن القاصد الرسولي عن “هدنة دائمة وثابتة” بين الجيش والقوات في ظلّ أوضاع حياتية ضاغطة، وباتت “الشرقيتان” في حال استنزاف لا يُحتمل. في هذه المناخات المستجدة عاودت اتصالاتي فاجتمعتُ ما بين 22 و26 أيار 1990 مرتين مع الجنرال وأربع مرات مع الحكيم، وكنت على علم أنّ أطرافًا آخرين يقومون بمساعي التهدئة، ومنهم داني شمعون ومارون حلو وجبران تويني إلى جانب لجنة الوساطة الدائمة المؤلّفة من الأباتي بولس نعمان وشاكر أبو سليمان وجورج عدوان.

من جهتي، كرّرت مقولتي إن التقارب بين الجيش والقوات هو الحلّ الأفضل للاثنين. لكن الجنرال كان ينظر إلى الأوضاع من زاوية أخرى: “أنا محاصر ميدانيًا لكنّي مرتاحٌ سياسيًا. أمّا سمير فمرتاح ميدانيًا لكنّه محاصر سياسيًا”، وأكمل: “إذا خسر سمير أمامي لن تُلغى القوات اللبنانية، وإذا انتصر عليّ فسيفرض عليه اتفاق الطائف إلغاءَها”، وتساءل: “لا أفهم حسابات سمير. لا مصلحةَ له في أن أسقط فهو لن يرثني كما يُخيّل إليه، فبيني وبينه وارثٌ هو الطائف. ولا مصلحة له أن يغلق الأبواب معي إلى حدّ يجعلني أُفضّل التفاهم مع سوريا”. وحسمًا للجدل قال لي: “أنا لا أثق بسمير، فهوَ يُعلن شيئًا ويضمر شيئًا آخر. أنا ملتزمٌ بوقف إطلاق النار، ولن أكون البادىء بفتح النيران، مع علمي المسبق أن لجنة الوساطة تراوح مكانَها، لكن وجودها أفضل من عدم وجودها”.

في اجتماعاتي مع الحكيم كان يصف المرحلة الراهنة بأنها “ضبابية”، ويفضّلُ أن يكونَ يقظًا ومتأنيًا، وكرّر على مسمعي: “أريدُ أن أكسب الوقت من دون أن أتنازل عن أيّ شيء. التفاهم مع عون لن يوصل إلى نتيجة. الجنرال لا يفهم إلاّ منطق القوة، ولن تُحلّ مشكلته إلاّ بالقوة”.
بقدر ما كانت الوساطات السياسية تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، كانت مساعي وقف إطلاق النار تفشل وتتوسّع رقعة القتال، ويرتفع عدد القتلى والجرحى ويزداد حجم التدمير. إزاء هذا المشهد المفجع، انفجر البطريرك صفير غضبًا فوجّه نداء جديدًا لوقف إطلاق النار، وهدّد بإنزال الحرم الكنسي بكلّ من يأمر أو يأتمر بإطلاق النار فيُمنع من شركة المؤمنين، لكن صوت الحرب كانت أعلى من كلّ الأصوات.

لم تقتصر الاشتباكات على المنطقة الشرقية بين الجيش والقوات، بل تعدّتها إلى المناطق الغربية بين حركة أمل وحزب الله، وتمدّدت من بيروت الغربية والضاحية الجنوبية وصولاً إلى إقليم التفاح، لكن التدخل السوري أوقف الاقتتال بين أمل وحزب الله(……)

وصل الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت في محاولة لحمل الأفرقاء اللبنانيين على تأييد موقف الحكومة. سارع سمير جعجع إلى إعلان “تأييده الكامل من دون أي لبس أو أي غموض” على حدّ قوله. من جهته كان ميشال عون متحفظًا ما استوجب على الإبراهيمي عقد أربعة لقاءات معه للخروج من الطريق المسدود. أسفرت اللقاءات بين عون والإبراهيمي عن صياغة العماد ردًّا خطيًا وجّهه إلى الرؤساء الهراوي والحسيني والحص واللجنة العربية العليا، ويتضمّن اقتراحين: إمّا تعليق مشاريع التعديلات الدستورية التي أقرّها مؤتمر الطائف لتنظر فيها حكومة اتحاد وطني مقبلة، وإمّا تجميد البتّ بهذه المشاريع إلى حين انتخاب مجلس نيابي جديد. لم يلقَ طرح الجنرال قبولًا عند الهراوي الذي رأى فيه ردًا بمنزلة رفض بيان الحكومة، وكان يلحُّ على دمشق كي تلجأ إلى الحلّ العسكري ضدّ عون.

أمام موقف الهراوي المتصلب، اتخذ عون موقفًا فيه بعض المرونة بالنسبة إلى اتفاق الطائف فقال " إذا شئتَ أن تبدأ بحوار مع الآخر فيجب ألاّ تبدأ بفرض أُطر وأفكار مُسبقة عليه، إنّما يجب أن تجلس معه وتناقشه توصلًا إلى حقيقة معينة وحلّ معين...”، واستطرد الجنرال: “إذا حصل حوارٌ فمعنى ذلك أنّنــا سنتوصل إلى شيء، ولا يجدر بأحدٍ منّا أن يدّعي البطولة لنفسه عن طريق إلغاء اتفاق الطائف ولا عن طريق تطبيقه، فلنكن جميعًا أبطال حلّ. كلّ طرف يعطي قليلًا من ذاته والطرف الآخر يساعده قليلًا من ذاته”. وختم عون كلامه بفتح نافذة على الحلّ فقال: “يجب أن نتحلّى جميعًا بالشجاعة لنقول نعم. وإذا لم نتوصلْ إلى حلّ جديد فيمكن أن يكون الحلّ هو الطائف زائد فاصلة...”.

لم يتلقّف الحكم اللبناني ولا دمشق عرض الجنرال عن “الطائف زائد فاصلة”، وأعلن الهراوي أن عون رفض بيان الحكومة وطلب من سفير لبنان في واشنطن نسيب لحود أن يجسّ نبض الإدارة الأميركية تجاه إمكان الحسم العسكري. اتّصل نسيب لحود بجون كيلي، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، الذي سبق له أن شغل موقع السفير الأميركي في لبنان، وسأله عن الموقف الأميركي من عملية الحسم العسكري مع ميشال عون، فأجابه جون كيلي: “قد يكون الوقت مناسبًا لمثل هذه العملية"

في إثر هذا الجواب، طلب وزير الدفاع ألبير منصور من قيادة الجيش “المباشرة فورًا بإنهاء حالة التمرّد التي يقوم بها العماد عون وبكافة الوسائل مع الحرص على منع أيٍ كان من الإفادة من هذه العملية ما خلا الشرعية”. أظهر هذا التصريح أنّ القرار السياسي بإسقاط ميشال عون عسكريًا قد اتخذ بضوء أخضر أميركي وشرط سوري بأن تطالب الحكومة اللبنانية بطلب خطّي المساعدة من الحكومة السورية، وأن لا يستفيد من هذه العملية سمير جعجع.

رغم تصاعد الكلام على عملية عسكرية ضدّ المنطقة الشرقية كان عون يؤكد: “لا أتوقّع حصول أيّ مواجهة ، فلا أحد يريدها أو يقدر عليها، نحن نرفض أي حوار داخلي بواسطة البندقية، فلبنان قائم على التفاوض وليس على الفرض”.

ردَّت حكومة الحص على مواقف عون فحمّلته مسؤولية إفشال المساعي الوفاقية وتعطيلِ الدولةِ وشلِّ مرافقها. كما قرّرَ مجلس الوزراء فرضَ حصار ديبلوماسي ومالي ونفطي على العماد عون وأناط تنفيذ هذا القرار بالوزيرين ألبير منصور ومحسن دلول.

في هذا السياق، استدعى الأمين العام لوزارة الخارجية سهيل شماس السفراء والديبلوماسيين لإبلاغهم قرار الحكومة منع الاتصال بالعماد عون . وقرّر مصرف لبنان وقف السيولة المالية عن المصارف القائمة في المنطقة الشرقية، كما تقرّر منعُ إدخال المحروقات والغاز إليها، فاشتدّت الضائقةُ الاجتماعية وارتفع سعر صرف الدولار ولامس 1200 ليرة لبنانية.…

أمام إصرار عون على البقاء في القصر الجمهوري والحوار مع مختلف الأفرقاء انتاب الشك الهراوي الذي أصرّ أن تتخذ حكومة الحص في 9 تشرين الأول 1990 قرارًا بوضع حدّ نهائي لحركة العصيان والتمرّد التي يقودها عون، و“الطلب من القوات السورية المتمركزة في لبنان مؤازرة الجيش اللبناني في تنفيذ المهمّة الموكلة إليه، وبسط سلطة الدولة على كلِّ الأراضي اللبنانية”. بهذا القرار استجابت حكومة الحص للشرط السوري الذي قضى بأن تتقدَّم الحكومة اللبنانية من دمشقَ بطلب خطّي رسمي للإطاحة عسكريًا بميشال عون.

فور اتخاذ الحكومة اللبنانية القرار المطلوب، اتّصل الهراوي بالأسد وقال له: “إنَّ مستشاري فارس بويز سيحمل إلى دمشق القرار الذي جرى الاتفاق عليه بيننا، وقد حمّلته رسالة موجّهة إليك سيسلّمها إلى عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي في حال لم يسمح وقتك باستقباله”. لكن الأسد استقبل بويز، وهو صهر الرئيس الهراوي، وأحسنَ الموفد اللبناني شرح الأمور فارتاح الأسد لشرحه ودفع لاحقًا في اتجاه تعيينه وزيرًا للخارجية اللبنانية.

في اليوم التالي لزيارة بويز لسوريا وصل إلى بيروت العميد غازي كنعان، رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في لبنان، حاملًا رسالة شفهية من الرئيس السوري يؤكد فيها “جهوزية القوات السورية لمساندة الجيش اللبناني في العملية العسكرية”. واقترح كنعان أن تتمَّ العملية عند الساعة السادسة من يوم السبت الواقع في 13 تشرين الأول 1990(*) .

يوم 11 تشرين الأول، التقى السفير الفرنسي رينيه آلا الجنرال عون وأنذره بأنَّ “الهجوم السوري بات وشيكًا”، وعرض عليه القبول “بمسعى الفرصة الأخيرة” التي تتضمّن ثلاث نقاط: أولًا انضمام عون إلى الشرعية إنقاذًا للبنان، ثانيًا دعوة عون جنوده إلى الالتحاق بالعماد إميل لحود في عملية إعادة توحيد المؤسسة العسكرية، ثالثًا عقد جلسة لمجلس الوزراء على الفور يتمّ فيها رفع الحصار عن مناطق عون وتقديم استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة يكون عون عضوًا فيها.

على الرغم من إلحاح السفير الفرنسي على أنَّ الوقت يضيق، كان الجنرال يتريّث ويتابع المواقف المعلنة وغير المعلنة التي تصدر عن الدول الكبرى المعنية بالوضع اللبناني ليلتقطَ اتجاه الرياح الخارجية. في هذا السياق أعلنَ الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية دانيال برنار “ينبغي تحاشي وقوع حمّام دم”. وصرّح المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية مارك ديلون أنَّ واشنطن “لن تعطي سوريا ضوءًا أَخضرَ لتطهير الجيب المسيحي”. وأبدى منسّقُ الأنشطة الإسرائيلية في لبنان يوري لوبراني “معارضته لأيّ تدخل عسكري سوري ضدّ حكومة عون”.

لا شكّ في أنَّ المواقف الأميركية والفرنسية والإسرائيلية المعلنة طمأنت إلى حدٍّ ما الجنرال الذي أخطأ بالركون إلى تصريحات تشابه الكلام الذي سمعه
صدام حسين قبلَ غزوه الكويت ، لم يحسب الجنرال أن هذه التصريحات قد تكون من باب المناورة التي تتبعها الدول قبل الإقدام على عمل عسكري ضدّ دولة معينة.

لم يصدّق عون أن القرار قد اتخذ باسقاطه عسكرياً، وارتكب في هذا السياق خطأين في تقدير الأوضاع. لم يتصوّر أن الحكومة اللبنانية قد تطلب من الحكم السوري أن يستخدم جيشه لاقتحام القصر الجمهوري، وهذا هو خطأه الأول. كما خُيّل له، أما خطأه الثاني والأكبر فكان اعتقاده أن دمشق لن تُقدم على إسقاطه بالقوة حتى لو طلب منها مجلس الوزراء اللبناني أن تفعل.

في 12 تشرين الأول 1990، قبل يوم واحد من عملية إطاحة عون، نقل زواره عنه قوله: “خلال الأربع وعشرين ساعة الأخيرة، أكّد لنا أكثرَ من ديبلوماسي أنّ ليس هناك أيّ عمل عسكري، غير أننا لاحظنا تحرّكًا عسكريًا واسعًا للجيش السوري على الأرض، واعتبرنا أنّ هذا الأمر هو من قبيل الضغط علينا...”. واستطرد أمام ضيوفه: “لن تكون أي عملية عسكرية نزهة وقرّرنا المواجهة... هم يتكلّمون عن الحوار في حين أنّهم يعتمدون الحصار، ويدعون إلى الحلّ السياسي وهم يلوّحون بالعصا الغليظة. إنّنا نعمل على إجهاض العملية الميدانية سياسيًا ونستعدّ لمقاومتها عسكريًا”.

وجاءَته في اليوم عينه رسالة من نوع آخر، ففيما كان يخطب في الجمهور الذي وصل إلى “بيت الشعب”، أطلق شاب من مسدسه خمس رصاصات، أُصيب مرافقهُ جوزف رعد الذي استشهد وأنقذ حياة الجنرال. ألقى المتظاهرون القبض على الجاني وتبيّن أنّ اسمه فرنسوا حلال…..

كان الجنرال يتحضّرُ لهجومٍ عسكري، لكنّه أخطأ في التوقيت ولم يصدّق أنّه سيحصل في 13 تشرين الأول، مع العلم أنّه تسلّم في 12 تشرين الأول من المخابرات العسكرية اللبنانية أمرَ عمليات تضمّنَ خطة الهجوم على قصر بعبدا ووزارة الدفاع مع أسماء الضباط السوريين الذين سيتولّون هذه المهمّة. كما لم يتوقّف عند كلام أطلقه نبيه بري وأعلنَ فيه أنَّ “مرحلة الحسم بدأت، والملامةُ الأولى والأخيرة تقع على العماد عون الذي رفض طرحًا سلميًا انطلاقًا من شعاره: إمّا القصرُ وإمّا القبر. والآن نحن في مرحلة آخر الدواء الكيّ، ومرحلة الحسم بدأت ولا عودة عنها...”. لم يأخذ عون بهذه المعلومات والتصريحات ونظر إلى أنَّ أمرَ العمليات مسرّبٌ بقصد التضليل، وأنّ كلام بري يندرج في إطار التهويل.

صبيحة السبت 13 تشرين الأول 1990، أو “اليوم الأكثر سوادًا في تاريخ لبنان”، كما وصفه العميد الركن فؤاد عون، وعندَ الساعةَ السابعة، حلّقتْ طائرات سورية حربية من نوع سوخوي في الأجواء اللبنانية وحامَتْ على علوٍّ منخفض فوق مبنى القصر الجمهوري ووزارة الدفاع وقصفتهما بالقنابل والصواريخ الجوية بصورة كثيفة وعنيفة.

مع أول قذيفة أطلقتها طائرات السوخوي فهم الجنرال الرسالة، وأدركَ أنَّ الضوء الأحمر الدولي الذي شكّل حماية حركته في السنتين الماضيتين تحوّل إلى ضوء أخضر أُعطي لدمشق لإسقاطه، إذ لا يمكن للطائرات السورية أن تحلّق في سماء لبنان وتقصف من دون توافق دولي، ومن دون موافقة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تحديدًا. واستنتجَ أنّ كلّ الخطوط الحمر قد سقطتْ، وأنَّ سوريا تقبض في لبنان ثمن مشاركتها في حرب العراق.

في تلك اللحظات حضرت في ذهن عون ثلاثةُ احتمالات: إمّا أن يخوض معركة فناء عبثية، وإمّا أن يستسلم، وإما أن يجد مخرجًا سياسيًا يوقف إطلاق النار. استبعد على الفور الاحتمالين الأولين، وسارع إلى الاتصال بالسفير الفرنسي رينيه آلا وأخبره “أنَّ الطيران السوري يقصف قصر بعبدا ووزارة الدفاع بوتيرة جهنمية، وقد اشتعلتْ كلُّ الجبهات، والقصف يتزايد، والهجوم شامل”.

استغرب السفير موضوع تدخّل الطائرات السورية لأنّ باريس كانت تتصوّر كلّ السيناريوات، بما فيها عمليات إنزال بالطوافات خلف خطوط عون، لكنّها لم تكن تتوقّع قصفًا مباشرًا يقوم به الطيران السوري، فسأل الجنرال على سبيل التيقن: “هل تعرف نوع الطائرات التي تنفذ العملية؟” أجابه الجنرال: “إنّها طائرات سوخوي”. استمهله السفير بعض الوقت ليجري اتصالاته مع المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية. وبالفعل أيقظ السفير مدير مكتب وزير الخارجية برنار كسيدجيان وأبلغه بالهجوم السوري وطلب منه إبلاغ وزير الخارجية رولان دوما ورئيس الجمهورية فرنسوا ميتران.

بعد نصف ساعة، عاود عون الاتصال بالسفير الفرنسي وقال له بلهجة هادئة لكنّها أشبه بمن يعلن موقفًا: “بما أنَّ الطيران السوري دخل المعركة ولم يتحرّك أحد لمنعه، وبما أنّ كثافة النيران لا يمكن صدّها، فإنَّ متابعة المعركة لن تؤدي إلاّ إلى المزيد من سفك الدماء، فإني أطلب وقفًا لإطلاق النار...”. وتمتم بصوت خافت: “أعرفُ أنّي خسرْتُ”.

تأثر السفير بالكلمات الأخيرة التي نطق بها الجنرال، وكان يدرك كم هو صعب على عون أن يعترف بالخسارة، فأجابه بكثير من التعاطف والمودة: “إمهلني بعض الوقت لأقوم بما يلزم”. سارع السفير الفرنسي إلى الاتصال هاتفيًا بالرئيس اللبناني عدّة مرات إلى أن ردّ عليه الياس الهراوي وسأله عن عون من دون أن يسمّيه بالاسم: “هل هو عندك؟” أجابه السفير: “كلا، ولكن نحن على تواصل هاتفي وهو يطلبُ وقفَ إطلاق النار”. علّق الهراوي: “أنا لا أصدّقُه، ونحن معتادون على مناوراته، فليأتِ لعندك ويطلب وقف إطلاق النار وبعدها نرى كيف نرتّبُ الأمور”. نقل السفير إلى عون طلب الهراوي بضرورة حضوره إلى السفارة كشرط للتفاوض على وقف إطلاق النار، أجابه عون: “لا سبيل إلى الخروج تحت القصف فالقنابل والصواريخ تتساقط على كلِّ شبر حول القصر، إنّه الجحيم من حولي”. لكنّ السفير أصرّ عليه أن يأتي إلى السفارة، فقال له عون: “سنرى”.

في إثر هذه المخابرة اطمأنّ عون أنّ المخرج السياسي بوقف إطلاق النار بات متوافرًا رغم رقصة الموت التي تدور حوله، لكنّه كان يخشى احتمال أن يتمَّ اغتيالُه فورَ خروجه من القصر، فاحتاط للأمر، وأصدرَ الأوامر إلى معاونيه بإتلاف بعض الأوراق السريّة، وترك عائلته والعاملين معه في القصر على أساس أنه ذاهب لمدة قصيرة إلى السفارة الفرنسية التي لا تبعد عن القصر أكثر من كيلومترين يمكن اجتيازهما بصورة مفاجئة وبسرعة، ليعود بعدها بالطريقة عينها.

انتقل عون مع بعض المرافقين والحرس بواسطة ملالتين من طراز M113، ووصل حوالى الساعة الثامنة والنصف إلى السفارة الفرنسية. سارع السفير إلى إنزال عون إلى طبقة تحت الارض لأنّ زخّة من القذائف استهدفت السفارة لحظة وصوله، وكاد يُصاب هو والسفير الذي أشار على عون أن يبقى داخل مبنى السفارة لأنَّ حياته مهدّدة بالخطر، أجابه العماد أنَّ عائلته بقيت في قصر بعبدا إضافةً إلى كلّ أوراقه الخاصة ظنًا منه أنّه عائد للتوّ، أجابه السفير أنّه سيحرص على عدم التعرّض لعائلته، وأنّ الأوراق ستتمُّ معالجتها.

اتّصل السفير ألا بالرئيس الهراوي ليعلمه بأنَّ الجنرال “بات موجودًا في السفارة فماذا نفعل؟” ردّ الهراوي: “النيات لا تكفي، على العماد عون أن يبلغ وزارة الدفاع في اليرزة أنّه يُسلّم القيادة إلى العماد إميل لحود، كما عليه أن يُذيعَ بيانًا بصوته” قال له السفير إن عون إلى جانبه فممكن ان يتكلّم معه، رفض الهراوي قائلًا: “التفاوض يتمّ عبرك”. سأله السفير: “متى ستعطي الأوامر بوقف إطلاق النار؟” أجابه الهراوي: “إنَّ وزير الدفاع ألبير منصور سيتصل بك”. وبالفعل اتّصل ألبير منصور بالسفير الفرنسي وطلب منه أن يصدر عون بيانًا بصوته يدعو فيه جنوده إلى وقف إطلاق النار، والالتحاق بالعماد إميل لحود وتلقّي الأوامر منه. وكان الإصرار على إذاعة البيان بصوت الجنرال لإظهاره بمظهر المهزوم عسكريًا وإذلاله شعبيًا، لكنّ الذريعة المعلنة كانت أنَّ سماع العسكر صوت قائدهم يجعلهم يوقفون القتال على الفور
عند صياغة البيان، أصرَّ عون عن طريق السفير الفرنسي على استخدام عبارة “خسارة” في بيان إعلان وقف إطلاق النار بدلًا من عبارة “التفاهم”، مع العلم أنَّ عبارة “الخسارة” تنعكس سلبًا على معنويات الجيش والشعب. لكنَّ الجنرال تعمّدَ الإقرار بالخسارة ليؤكد للعالم، وفي العلن، أنّه لم يتمَّ التفاهم معه، بل تمَّ سحقُه عسكريًا، مما يعطيه الحقَّ بأن يستردّ لاحقًا بالتفاوض أو بالقوة ما أُخذ منه بالقوة.

تحفّظَ عون بداية على شرط الإدلاء بالبيان بصوته، لكنَّ السفير الفرنسي أقنعه بمثل هذا التصريح العلني، فاتّصل الجنرال بمدير الإذاعة اللبنانية
رفيق شلالا وطلبَ منه أن يُعلنَ عن خبر وصولِه إلى السفارة الفرنسية، وأن يذيع أن المفاوضات جارية لوقف إطلاق النار. كما اتّصل عون برئيس الأركان جان فرح وقال له: “لا تُفاجأ سأدعو إلى وقف إطلاق النار، وسأطلب من الجيش أن يضع نفسه بتصرّف العماد لحود وأن يتلقى الأوامر منه”.

بعد هذين الاتصالين أعلن عون بصوت مخنوق: “حقنًا للدماء وتخفيفًا للأضرار وإنقاذًا لما تبقّى، أطلب من الجيش اللبناني تلقي الأوامر من الآن وصاعدًا من العماد إميل لحود”…….
اختصرت جريدة النهار في 31 كانون الأول 1990 مسار الجنرال فكتبت: “خسر حرب التحرير لأنها كانت أكبر منه، وخسر حرب الإلغاء لأنّه اعتبرها أصغر منه”……

فجر 28 آب 1991، تحرّك موكب سيارات من السفارة الفرنسية يُقلُّ
ميشال عون وصحبه في اتجاه منطقة الضبية حيث كان ينتظرهم زورق مطاطي من طراز زودياك، قادهم إلى غواصة فرنسية في عرض البحر أقلّتهم إلى مدينة لارنكا في قبرص، ومنها إلى قاعدة عسكرية في فرنسا، قبل أن يحطوا الرحال في مدينة مرسيليا. بوصوله إلى مرسيليا أصبح ميشال عون أول منفي رسمي منذ استقلال لبنان في العام 1943، وأول لاجىء سياسي قضى في السفارة الفرنسية في لبنان 321 يومًا على التوالي.
 


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم