الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

"الذات أو سيرة نَتْسوكي" لناجي نَعمان... رواية افتراضيّة تقرّبُنا من ذواتنا في خضمّ عالمنا الصاخب

المصدر: "النهار"
غلاف رواية "الذات أو سيرة نَتْسوكي" لناجي نَعمان.
غلاف رواية "الذات أو سيرة نَتْسوكي" لناجي نَعمان.
A+ A-
مارلين سعاده

مؤسّسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان
لمن فاته التعرُّف بـ"مؤسّسة ناجي نَعمان للثقافة بالمجّان" أشير إلى أنّها قائمة جغرافيًّا في الطابق الأوّل من مبنًى يقع بين ساحة جونية وبلديّتها، وهي، بانوراميًّا، متراميةُ الأطراف بحيث تطالُ جوائزُها دولَ الشرق الأقصى وأوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسِّط والدول العربيّة كافّةً... وأنّ كلّ من يزورها يمكنه الحصول على كتب مجّانيّة تُترَك عند باب المؤسّسة، من الخارج والداخل على حدٍّ سواء، هديّة لكلّ زائر، يختار منها ما يشاء؛ وأنّها تتضمّن المتحفَ الاستعاديّ لمتري وأنجليك نَعمان، ومكتبةً عامّة؛ وتستقبل بشكل دوريّ ضيوفًا من المجتمع الثقافي-الأدبي والفنّي، وتقام فيها ندوات ثقافيّة... وأخيرًا وليس آخرًا، أشير إلى أنّني في زيارتي الأخيرة لـ"مؤسّسة ناجي نَعمان للثقافة بالمجّان" غادرتها محمّلة - كالعادة - بمجموعة من الكتب، من ضمنها كتاب "الذات- سيرة نَتْسوكي"، للأديب ناجي نَعمان، صادر عن دار نَعمان للثقافة في 22-2-2022، وهو أحد كتب نَعمان التي أصدرها تباعًا تحت مسمّى واحد هو "حياةٌ أدبًا"، ولكن تختلف عناوينها ومضامينها، بطبيعة الحال. يتميّز غلاف الكتاب الذي يحمل العدد 14 - كما كُتُب المجموعة كاملة – بلونه الأبيض، يتوّج أعلاه اسم الأديب ناجي نَعمان، ويستريح عند أسفله رسمُه بريشة الفنّان جورج بو هارون.
 
مقدّمة الكتاب
تتصدّر الكتاب مقدّمة الشاعر أنطوان رعد الذي قارب سيرة نَتْسوكي من خلال المقارنة بينها وبين قصّة "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو ورواية "حي بن يقظان" لابن سينا التي أعاد صياغتها بالتتالي كل من السهروردي وابن طفيل وابن النفيس. استفاد رعد من مقدّمته ليحدّد أسس القصّة الناجحة ومدى التزام كلّ واحدة من هذه القصص بها، رغم تأكيده أنّ التشابه بين سيرة نتسوكي والقصّتين المذكورتين يقتصر على الإطار العامّ، معتبرًا أنّ نعمان قد يكون استوحى منهما، في لاوعيه، من دون أن ينسخهما؛ مع ذلك، توقّف رعد عند النقاط المشتركة بين الأقاصيص المذكورة، وما يميّز كلًّا منها عن الأخرى، فلئن تقاربت القصص من ناحية مصادقة أبطالها الحيوانات ومؤالفتهم لها، إلّا أنّ سيرة نَتْسوكي تختلف عن سابقتَيْها في موضوع الجنس، كون البطلَيْن: روبنسون كروزو وحي بن يقظان، يبدوان كما لو أنّهما من جنس الملائكة، وفق تعبير رعد، بينما اعتبر أنّ نَتْسوكي أقامت "توازنًا بين متطلّبات الجسد وتطلّعات الروح" رغم ما ينتاب هذه الذات (ذات نَتْسوكي) من غرائز جعلتها "تمارس الجنس ذاتها مع ذاتها"..."! (ص 15 المقدمة) علمًا أنّ موضوع الجنس أخذ حيّزًا كبيرًا في قصّة نَعمان كونه أصل العلّة التي هيمنت على حياة أسرتها، وبالتالي على حياتها، لا سيّما أنّ والدتها اتّخذت من البغاء وسيلة عيش، متفنّنة في ابتكار الأساليب الأكثر إثارة والأكثر ساديّة...

أهمّيّة الكتاب والحاجة الدائمة إليه
إذًا، يخبرنا نَعمان في هذا الإصدار الأقرب إلى الرواية، سيرةً خياليّة لبطلة تدعى نَتْسوكي؛ وقد يكون أديبنا قصّر في حقّ الرواية إذ أعطاها رقمًا ضمن مجموعة كتاباته، ولم يُصدرها مستقلّة، أو يمنحها غلافًا خاصًّا بها، ويقدّمها على هيئة رواية، بحيث تجذب مجموعة أكبر من القرّاء من مختلف الأعمار، فيولونها اهتمامهم، عوض أن تُدمج في مجموعة أدبيّة قد يقتصر الاهتمام بها على فئة معيّنة من أهل الفكر.
 
في كلّ الأحوال، لن تستطيع الإبحار بين دفّتَي إصدار لعاشق اللغة ومجنون الثقافة بالمجّان ناجي نَعمان، إن لم تكن عاشقًا مثله، صافيَ الذهن، تائقًا إلى الغوص في المعاني. يمكنك أن تتعرّفه من أسلوبه حيثما تقع على شيء من كتاباته، فهو يمتاز بأسلوب خاص، وضنين بكلِّ كلمة، يشكلها بعناية، وينحت منها أحيانًا كلمات جديدة، نقع عليها في هذا الكتاب كما في كتابه "الزائر" الصادر في التاريخ عينه. أيضًا تلفتنا عنايته الفائقة بالسرد، بحيث يتآلف في جمله الماديُّ مع الروحي، ويتآخيا ويتجاورا، كقوله في "سيرة نَتْسوكي": "فالمحطّة هي لقضاء الليل والأنفاس... تُبكي الباقيةَ الوحيدةَ من البشر، كما الحجر!" (ص 37)، أو قوله: "أفاقت نَتْسوكي وراحت تعيش روعة المشهد من بيتٍ يحمي إلى نهرٍ يُطرب وجبلٍ يوحي، فيما هالةُ الجدّة إميكو تُضفي على الزمان والمكان عطرَ الأوّل وبخورَ الثاني" (ص 42 الفقرة الأخيرة).
 
نلاحظ أيضًا خلال السرد أنّ نَعمان يترك بصماته جليّة بين الأسطر، مستخدمًا عبارات بعضها من ابتكاره، ليؤكّدَ من خلالها، مرّة جديدة، على أهمّيّة الكتاب والحاجة الدائمة إليه، مناديًا: "لندع الكتاب الورقيّ حيًّا" (ص 34)، منوّهًا بإقبال نَتْسوكي على المطالعة، ذلك أنّها "خير أنيس وجليس" (ص 47)... وهو بذلك يذكّرنا بلامارتين في روايته "غرازييلا" حيث يبثّ ضمن السرد جملًا تشير إلى أهمّيّة الكتاب، معلنًا عن هويّته الأدبيّة الهادفة التي تتخطّى السرد والوصف لتلامس الرسالة السامية المنوطة بالكاتب والكتاب، كقوله: “O livres, qui pouvez remuer le Coeur des hommes et des femmes qui ne savent même pas lire!"* التي أترجمها على النحو الآتي: "آه أيّتها الكتب، القادرة على تحريك قلوب الرجال والنساء، حتى مَن لا يُحسن منهم القراءة!" إلّا أنّ نَعمان يذهب إلى أبعد من ذلك، مشيرًا بشكل واضح إلى الهدف الذي كرّس حياته لتحقيقه وجعْله أمرًا واقعًا، مصرّحًا في الرواية بالفم الملآن: "إنّ الثقافة لا تُشرى بأيِّ مال، بل تُحَصَّل بالمطالعات الشخصيّة والاطّلاع، كما لا يجوز أن يحبسها مَن توصَّلَ إليها أو أن يبيعها، بل عليه أن يوفّرها لسواه، وبالمجّان" (ص 56). وبذلك يعكس من خلال كتاباته، فكرَه وإيمانَه العميق بالرسالة التي أخذها على عاتقه، رسالة نشر الثقافة، وبالمجّان! منتهيًا إلى القول: "ما من فقيرٍ إلّا مَن لا يقرأ." (ص 117).
 


سيرة نتسوكي وأهدافها الإنسانيّة
نلاحظ من خلال السرد أنّ لدى نَعمان هاجس وحيد هو الإنسان، وبالتالي البحث عن السُّبُل التي تؤدّي به إلى عيش إنسانيّته بملئها، وإنضاجها ورعايتها لتزهرَ وتثمرَ في الأرض كلّها. لقد اختار شخصيّات روايته من خارج البقعة التي يعيش فيها، فأحداثها تجري في طوكيو، والبطلة تحمل اسم "نَتْسوكي"، ولا ندري إن تقصّد اختيار هذا الاسم أم هو من قبيل الصدفة، كونه يعود إلى شخصيّة يتابعها الصغار حول العالم؛ لكنّه يروي سيرتها في عالمٍ بات خاليًّا من البشر، وأضحت فيه وحيدة، الأمر الذي خوّلها الاستغناء عن الدين، أو فرْض الدين الذي تريده على الكون! مشيرًا إلى أنّها "وجدت في الأنسنة، كنهج حياة لا كدين، سبيلًا قويمًا وحيدًا لعيش الحياة المجتمعيّة، وحتى لخلاص البشر ما بعد الحياة." (ص 80).
 
رسمَ نَعمان أُطر العالم الذي ستعيش فيه بطلته نَتْسوكي، متفلّتًا من كلّ قيد، ليُرينا من خلال عالمها واقعَ العالم ككل، وقد اختار اليابان وطنًا لها - كما أسلفنا - ناقلًا لنا تفاصيل بعض معالمها الجغرافيّة، وطبيعة أرضها، حتّى لنظنّ أنّه وُلد ونشأ فيها، وحفظ شوارع مدنها ومنعرجات جبالها. ولم يأبه لما قد يتركه الواقع الذي رسمه من تساؤلات لدى القارئ، تساؤلات تعكس عدم تصديقه لاحتمال حصول أمر مماثل على هذه الأرض، إذ يصوّرها خالية تمامًا من أيّ أثر لبشريّ غير بطلته، حتّى أنّنا لا نقع على جثّة واحدة! ما يجعلها تبدو قصّة خياليّة بامتياز، رغم أنّه يُظهر لنا البلاد بكلّ مكوّناتها وبما طرأ عليها من تغيُّرات بفعل التكنولوجيا والتطوّر. لقد خلق هذه الأسطورة بهدف إيصال فكرة محدّدة، من دون مراعاة الواقع أو التقيُّد به، بحيث تبدو هذه الرواية كسفينة تحمل أفكاره وخبراته، والحكمة التي استخلصها من الحياة، وتبحر بها نحونا كقرّاء، لترسو بحمولتها على شواطئ أفكارنا التوّاقة لكلّ جديد قد يكشف لها حقيقة الوجود، والهدف منه، ومآله في النهاية.

الجنس القاتل والموت المؤدّي إلى الخلاص
ولئن بدا كثيرٌ من تفاصيل هذه الرواية خياليًّا، إلّا أنّها، تنقل لنا بين طيّاتها، لا سيّما في الفصل الرابع المعنون "في العلّيّة - الحقيقة المرّة!" (ص 88)، واقعًا بشريًّا معاشًا، هو طبيعة الحياة الجنسيّة لدى المخلوقات، البشريّة منها والحيوانيّة على حدّ سواء، بشفافية مطلقة، تُظهر لنا كيف أنّ الغرائز الجامحة والهواجس المرَضيّة تجعل العلاقاتِ الجنسيّةَ غيرَ سويّة، تجنح إلى الشذوذ والساديّة وحتى المازوشيّة؛ ناسجًا قصّةً "مافيويّة" ممكنة التصديق إلى حدٍّ بعيد، استلّها من واقع قد يكون ثمّة مَن عاشه بحذافيره أو واجه ما يماثله، إذ يخبرنا تفاصيل دقيقة تشبه الكثير من الممارسات البشريّة الغريزيّة واللاإنسانيّة، بطريقة تجعلك تصدّق حدوثها فعليًّا، إلى حدّ أنّك تودّ أن تستفسر منه عن الأسماء الحقيقيّة والتواريخ... يأتي السرد في هذه المرحلة ما قبل الأخيرة من الرواية، سريعًا، وكأنّه ينقل لنا خبرًا جمع تفاصيله من الجرائد والمجلّات، بحيث يوصل لنا أبرز الأحداث وأهمّها بأقلّ الكلمات وأكثرها تعبيرًا عن الواقع، لتصل الصورة إلى القارئ/المتابع واضحةً، تكشف الحقيقة القاسية لما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من إجرام.

وبقدر ما أعطت الرواية حيّزًا للجنس، أعطت للموت، لا سيّما أنّ بطلة الرواية هي الوحيدة المتبقّية من جنسها على وجه البسيطة، ما أدخلها في دوّامةٍ من التساؤلات والهواجس، "وقد أيقنت أنّ الموت في وجود الناس رحمة." (ص 123) وبالتالي وجودها وحيدة هو موت، والموت هو كأس الخلاص الذي ينبغي عليها تجرّعه، فـ"طارد جسدُها روحَها التي سبقته إلى الحرّيّة والحقيقة" من أعلى جبل كراكونيداكِه المطلّ على خليج كاغوشيما (ص 129)، "طارت من قمّة الجبل كما الريشة، ماتت لتُبعثَ في مكان آخر، وربّما في خلقٍ جديد يُصلح فيه الخالق أخطاء خلقه السابقة، ويعوِّضُ فيه الإنسانَ بأن يجعله بالغ الأنسنة، ويجعل به الأرض الجنّة الفعليّة لا الموعودة، والفردوس المكتشف لا المفقود!" (ص 130). لقد طرح الكاتب، في هذه المرحلة، على لسان البطلة، العديد من الأسئلة الوجوديّة التي تراوده، كما قد تراود كلّا منّا، عارضًا بعض الاستنتاجات التي قد ينتجها تلقائيًّا العقل البشري المعاصر، إذ "فكَّرَت أن لا شيء يُثبت عدم وجود أجناس بشريّة في كوكب ما أو أكثر، أو أنّ ما من فكر في هذا الكون من خارج البشر." (ص 125) إلى ما عداها من أفكارٍ وتساؤلات... منتهيًا إلى خلاصة تعكس واقعًا مؤلمًا نتوق كلّنا إلى التحرّر منه وتبديله، فنجد في كلماته صدى لأفكارٍ تراودنا وأحلامٍ نلجأ إليها ونحمّلها آمالنا وتمنّياتنا بعالم تسوده الألفة والمحبّة والإنسانيّة، نحن أبناء هذا الكون الذي "ينتهي مرارًا وتكرارًا برحيل كلّ بشريٍّ يدركه ويحسّ به؛ وإن هو يبقى ويستمرّ، فللبشر الآخرين." (ص 133).

"الذات أو سيرة نتسوكي" قصّة تستحقّ التوقّف عندها، تدخلنا في عالم، رغم أنّه افتراضي، يعيدنا في بعض المواضع إلى عالم أكثر واقعيّة من العالم الذي بتنا نعيش فيه، ويضعنا في مواجهة مع الذات سعيًا لمعرفتها بشكل أفضل، والتصالح معها، بغية عيش حياة سعيدة وسلاميّة.

*A. DE LAMARTINE, GRAZIELLA, Adaptation de Pierre de Beaumont, Le Français Universel, Hatier-Paris 1968, p. 63.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم