الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

إيتيل عدنان... الشاعرة التي لم تطوِ شرقها

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
إيتيل عدنان.
إيتيل عدنان.
A+ A-

لعلّ أحد الأمثلة أو الأقوال الشائعة يشير إلى أن الإنسان من  دون هويّة هو إنسان بلا وجود، ولعل الصورة النمطيّة الأولى التي يتخذها المرء عن مغترب فقد لغته الأم ومارس طوال حياته اللغة التي اكتسبها لتكون موضع عمله أنه انسان فقد ماضيه. هذا ما دحضته إيتيل عدنان (1925-2021) الشاعرة التي نزحت نحو الفرنكفونية لتبدأ بعدها رحلتها الأكاديميّة والفنيّة باللغة الفرنسيّة أو بالأحرى بشاعريّة اللغة الفرنسيّة الهادئة التي تجسدت بلوحاتها قبل شعرها.

عدنان التي برهنت طيلة عملها في مرسمي الشعر والفن أنّ الشرق لم يفارقها وأن وجدانها بقي معه لمناصرة كل قضية إنسانيّة وسياسيّة محقّة يحتاج العدل فيها الى مناصرة وزخم فني، تركت في قصائدها ما يدل على خوفها على بيروت وفلسطين وحرصها على بقاء صوتها عاليًا لمناصرة كل انسان مقهور ومتروك اجتماعيًّا وسياسيًّا وحياتيًّا.

ولعلّ كتاب يبوس وقصائد أخرى (الصادر عن دار التنوير- طبعة أولى 2016) يعدّ أنموذجًا يتمحور بوضوح حول مختارات شعريّة تناوبها على ترجمها عدد من الشعراء والمترجمين وتتضمن أسطرا تصوّر فيها عدنان رؤيتها تجاه شرق مهزوم بالحروب والصخب التدميري...الشرق الذي أتته بالشعر كي لا تخذله أبداً.

 

الطوق العربيّ بنظرة سياسيّة شعريّة

في قصيدتها "يبوس" تختار الشاعرة يبوس العاصمة التي سمّاها التوراة وأنزلها لتكون عاصمة فلسطين لتمشي بمسار شعريّ مطول من أول نقطة عراك في التاريخ حول فلسطين وماهيتها لتصل فيما بعد الى الموقف السياسي أو الرؤية السياسية والإنسانية الخاصة بها تجاه هذا البلد الذي أنهكه الاحتلال وقبله الاستعمار وأهلكه تناسي قضيّته وطيّها في أدراج الاهمال.

 

وما كان أمامها إلّا تشخيص يبوس لتكسر الشيء في داخل هذا الإسم، وتجعله بطلاً تأمل من إعادة التاريخ إلى حقيقته العادلة: "يبوس سيعود ليوزّع الأرض الى الأرض/ ليغزو القمر بلا سلاح (ص.7)، لتعطي بعدها تمهيدات وتوصيفات تاريخيّة تتقدّم على موقفها الذي سيكون في ذروته الانفعالية والمباشرة  "يبوس الكنعانيّ/ وباني مدينة أورشليم" (ص.13) متوجهة  فيما بعد  للأمة التي خذلت فلسطين "يا شاربي البول.../ يا شاربي البترول... فلسطين أمّ الأمم مصابة بوباء/ ممجّدة بأورام على وجهها "(ص.17). وهنا صرخة انفعالية إزاء الخذلان الوحشي التي تعرضت له هذه الأرض العربية من أشقائها "آه فلسطين القلب الوضيع النازف/ من سيّره على الأسلاك الشائكة (ص.17)، في إشارة إلى الأسلاك التي عبّدها العرب بمواقفهم الضعيفة والخجولة تجاه ارض اغتصبت ونكل شعبها بدءًا من الاستعمار البريطاني وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي.

 

ولم تكن فلسطين وحدها هي الإشارة العربية التي تربط عدنان بمشرقها، بل سعت من خلال مسارها في هذه القصيدة وقصيدة "قبر ثوريّ من أجل عمّان "  رسم الواقع العربيّ بألوان باهتة تتناسب مع كل جزء من هذا الشرق المهزوم. فقبل فلسطين كان ثمة تعريج وتسليط ضوء على الجزائر التي ضحّتا بهدوئها وجمالها مقدمة الألم كي تحافظ على هويتها، فقدمت مليون شهيداً لدحر المستعمر الذي كاد أن يجعلها أرضًا فرنكفونيّة خالصة: "تدربنا على الألم في الجزائر/عشنا لحظات سعيدة/ وعلينا أن نبدأ من جديد...(ص.12).

 

وربّما تتشكل البداية الجديدة في الثورة والتمرد اللذين منحا أخيراً هذا البلد الشمال إفريقيّ استقلاله...لتتابع بعدها عدنان رحلة هذا التجسيد المأسوي بأدوات مجازية للواقع المهزوم من خلال جعل يبوس فرداً  يتمتّع بموت مستدام يتوزع بالتقسيط على الجزء الذي تمم الكل المتهالك: "يبوس هو الشعب على مدى الأزمان (ص.15) الشعب الذي يموت مرتين  منذ تكوينه/ في بدء العالم أعدم يبوس/ لكن عينيه دجلة والفرات/وسورية أحشاؤه / والأردن ضلعه الجنسي. (ص.16).

وعلى صعيد جزئي كان لعمّان ولبيروت حصّتان مستقلتان من بوح عدنان ونظرتها المتكئة على سرد شعريّ حمّال أوجه قد يفضي الى حكاية شعريّة أو ينسحب نحو توثيق او تصوير ذاتيّ... ففي قصيدتها "قبر ثوريّ من أجل عمّان"، كانت عدنان تحمل كاميرا نظرتها التي ولدت نتيجة زيارتها للعاصمة الأردنية التي أعادت إفراز الموت بدءًا من الماضي وصولاً الى الحاضر "ما أجمل الموتى/ يتمدّدون على الخشب في أكفانهم الضيّقة... الشهداء  الذين  لم يعرفوا كفنًا/ بين الجزائر وعمّان. (ص. 39).

أثبتت عدنان إذن أنّها على صلة ساطعة بالشرق العربي المتهالك وتحديدًا من خلال قصيدة "يبوس" التي كانت نحتًا شاملاً ومتكاملاً لصرخة متكاملة نحو كل من ساهم بتهالك الصور العربية وتوغلها في مستنقع الموت والدم.

بيروت وأوجهها المأسويّة

لم تترك عدنان فرصةً تضيع للحديث عن بيروت العاصمة التي أوت المرأة ذات الأصل السوري والأم اليونانيّة،  بيروت التي كتبتها عدنان بأوجهها المأساوية من خلال قصيدة  "القطار السريع بيروت - جهنّم " التي يتجسد فيها البعد الفكريّ والسياسي والأيديولوجي للشاعرة "أيها الأغبياء/ هل تعرفون، أن رامبو  كان بيننا منذ نحو قرون/ من بيروت إلى عدن" (ص.27)، لتوجّه صرختها التي أطلقتها قبل ذلك على الأمة نحو الذين دّمروا بيروت وأحرقوها بنيران الحرب والاقتتال المذهبيّ بصيغة هجائيّة قاسية "نعم يا أهل بيروت/ ناموا واشخروا/ وليحرق الأزوت  غابات الصنوبر تلك" (ص.27)، كتدليل وإشارة إلى غياب أوكسيجين الحياة عن عاصمة تنبض بالخضار والحياة والصوت  لا مزبلة وركام "البلد أضحى مزبلة/ مستودعًا للبضائع الأجنبيّة الكاسدة "(ص.27).

أمّا صورة التلوث المعنوي والمادي الأوضح قد تجلّت لدى الشاعرة حين بدأت تصف وجه بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 "فلنسمّ أطفالنا: دير ياسين/ قلقيلية/ صبرا وشاتيلا"، والإشارة الى هذا المخيم الفلسطيني البيروتي ما هو إلّا جرحاً إنسانيّاً في ذاكرة عدنان وكل اللبنانيين، لا ينبغي أن ينسى،  وتُتابع أن الثأر والمقاومة وردة الفعل يجب أن تعاجل الفعل  "إنّ الانتقام شجرة/ تنبت في حديقتي "(ص.42). توظيف الشجرة كرمز للحياة واستمرارها على أنها منبت للثأر ما هو إلا دلالة كبرى على الموت المحق والاندفاع نحو المقاومة للحفاظ على قيد الحياة .

وفي قصيدتها "بيروت من جديد"، أعادت عدنان ترسيخ الجرح العاطفي نفسه "بيروت على الراديو/ والسلفادور على التلفزة/ هي صبرا وشاتيلا في الذاكرة" (ص.49).

رسمت عدنان بيروت بلون الخراب والرماد وذكرت فإذن من خلال هاتين القصيدتين بالروح الفكرية والمزدهرة التي ارتدها هذه العاصمة قبل حلول لوثة الدمار والحرب والتهجير والدم على أصقاع...وجاء ذلك ليؤشر على تعلقها بالهويّة الشرقية أكثر رغم البعد.

قدمت إيتيل عدنان من خلال هذا النموذج الشعريّ العديد من دلالات التزامها بماضيها ومسار هويتها ومصيرتها رغم أن ما كتبته من قصائد تندرج تحت مسمى "الفن للفن" كان حاضرًا في العديد من الأعمال وحتى من خلال القصائد الملتزمة نفسها...

إيتيل عدنان تغيب اليوم وتطوي صفحتها رقم 96 لكنها لم تترك للموت أنامل يطوي من خلالها شاعريتها تجاه الشرق وشعريتها المشرقيّة.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم