الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

المغربي محمد بنيس و"ثنائية الروح والجسد"... مأسوية واقعنا العربي لها جذورها في التاريخ والمؤسّسات

المصدر: "النهار"
الشاعر المغربي محمد بنيس.
الشاعر المغربي محمد بنيس.
A+ A-
سهير شعلان أبو زيد- باحثة

انطلاقًا من دراسة قمتُ بها بعنوان "الفينومينولوجيا في ثنائيّة الروح والجسد" أدونيس وبنّيس نموذجان، ونلتُ على أثرها شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية، أضيءُ، عبر "النهار"، على الحوار الذي أجريته مع الشاعر المغربي محمد بنيس حول موضوع الدراسة.

رحلة "ثنائية الروح والجسد"، إلى أين انتهت في جسد بنيس، وفي تجربته الحياتية؟
أوضح في البدء بأني أتحاشى استعمال كلمة "الروح" في شعري كما في كتابتي إجمالاً. وبدلاً عنها استعمل كلمة "النفَس" (بفتح السين)، التي يمكن أن تعني كلمة "النفْس"، كما جاءت في شرح ابن رشد لكتاب أرسطو الذي يحمل العنوان ذاته. هذا الاختيار معرفي. إن اللغة توجد في النصوص، وإذا كان الشاعر حارساً للغة وساهراً عليها فهذا يعني أنه يستعملها بما هي رؤية للذات وللعالم.
 
نعم، هناك تاريخ فلسفي وديني لكلمة "الروح"، أو لثنائية "الروح والجسد". والثقافة الإسلامية، دينيًّا وفلسفيًّا وصوفيًّا، تولي هذه الثنائية أهمية في بناء الرؤية إلى الحياة والموت في آن. أما الشاعر فله جهة أخرى يشتغل عليها، هي إعادة النظر في اللغة الجاهزة والمتداولة، أو في اللغة الجماعية والمجمع عليها، بما فيها المفاهيم والتصورات ذات الطابع الفكري والنظري. فنحن، كما يقول الشاعر فرانسيس بونج، نكتب مع أو ضد كلمة أو كلمات. قولة بمثابة طريقة في قياس مدى الوعي بحراسة اللغة والسهر عليها.
 
كلمة "النفَس" تنتمي للجسد ذاته، لماديته. وعندما ننطلق من الجسد باعتباره مادة، نكون على طريق بناء رؤية مختلفة للشعر، رؤية في حالة صيرورة، أي أنها استكشاف متواصل، لا نهاية له. نحن إذن، في أرضية أخرى، منفصلة عن منطق ثنائية الروح والجسد. ومنها نبني، شيئاً فشيئاً، معرفة بالقصيدة وبالقصيدة، فيما نبني رؤية مختلفة للجسد وللوجود.

الشعر العربي الحديث نقدي لما لم تجرؤ الفلسفة العربية الحديثة بعد على نقده

أين موقع العقل العربيّ تلازمًا مع الجسد العربيّ من فينومينولوجيا ـ بونتي؟
أظن أنه لا بد من العودة، بهذا الخصوص، إلى "بيان الكتابة"، الذي كنت نشرته سنة 1981. كنت في هذا البيان وضعت أسساً لم أحد عنها حتى الآن. وهي تخص نقد العلاقة القائمة في الثقافة العربية القديمة بين العقل والجسد. لم أتخذ لا موقع المفكر ولا موقع الفيلسوف، لكني كنت منذ تلك الفترة مقتنعاً بأن للشعر فكره الخاص، حقيقته الخاصة، أي أنه ليس مجرد أحاسيس وانفعالات، وفكره ليس هو الفكر الفلسفي ولا السياسي ولا الصوفي، كما كنا تعودنا على قراءته. طبعاً، وجهة النظر هذه قوبلت بالانتقاد والسخرية. هذا طبيعي. لم تكن المسألة تتوقف عند حد الثقافة العربية، بل كانت تتوجه إلى ثقافة منتشرة في الثقافة الغربية مثلما هي حاضرة في الثقافة العربية.
 
في هذا السياق أقول إن فينومولوجيا ميرلو بونتي تعنيني، لأني أرى أن ثقافة الشاعر ذات طابع شامل، وهو ما جعلني محبًّا للفلسفة كما أنا محبٌّ للفنون والعلوم والتاريخ. ما كان يشدني إلى فكر ميرلو بونتي هو فلسفته في الإدراك، إدراك الوجود أو إدراك الأشياء في ذاتها. فلسفته ترمي إلى إعادة النظر في طريقة اقترابنا من الوجود ومن الأشياء. هذه الطريقة قائمة على الحسي مثلما هي تركز على الفطري. بمعنى أننا يجب أن نبتعد عن الآراء والأحكام المسبقة والمتعارف عليها، بخصوص ما نعيش وما نربط معه صلة يومية، أي الأشياء التي تحيط بنا في جميع مرافق الحياة. هذا الجانب من فلسفة ميرلو بونتي كان مفيداً لي؛ على أنني وضعته ضمن رؤية أوسع، معلمها الأول هو نيتشه. ثم إني أفدت كثيراً، في رؤيتي للجسد، من جاك دريدا وجاك لاكان وعبد الكبير الخطيبي. قد يبدو هذا غريباً بالنسبة لمن لا يزال ينظر إلى الشعر من منظور الاستعارة وحدها، بتلويناتها التعبيرية. أقصد هنا تفضيل الاستعارة كما هي لدى السوريالية، التي تفصل الرأس عن باقي الجسد. هو تفضيل السوريالية المنتصر بسماحة في الشعر العربي الحديث، منذ الخمسينيات حتى اليوم. لكنه ينفر من أي مقاربة نظرية، بخلاف ما كان عليه الشعراء العرب القدماء، في اختياراتهم الشعرية المؤسسة على المعرفة النظرية.
 
من ثم لا أريد السقوط، هنا، في تعريف العقل العربي كما نجده في كتابات فلاسفة عرب معاصرين. الأهم من ذلك هو التنبيه على أن الجسد العربي هو جسد مختزل إما في قراءة مفهومية، مدموغة بختم الدين (الإسلامي)، أو قراءة أنتروبولوجية، هي الأخرى اختزالية، بل تحقيرية. ولا شك أن أعمالاً شعرية عربية حديثة تساهم بدورها في ترسيخ رؤية متعالية أو اختزالية للجسد. على أن اختراق الرؤية الشعرية، السائدة في الثقافة العربية الحديثة، للجسد المفهومي أبعد مما عملت عليه الفلسفة العربية الحديثة في نقد القيم. وأنا واع بأن الشعر العربي الحديث نقدي لما لم تجرؤ الفلسفة العربية الحديثة بعد على نقده.
 
خلال مناقشة رسالة الماجستير.
 
هل الشاعر بالضرورة قارئ فينومينولوجي- بونتي، أم هو قارئ متعالٍ- هوسرل ؟
ج. 3 ـ أرى أن اعتماد الجسد في الكتابة هو بالأساس اعتماد الحسي، الملموس، الحاضر، المرئي. ليس من الضروري أن يعود الشاعر لا إلى ميرلوبونتي ولا إلى هوسرل. للشاعر مسار مختلف. ولكن فئة من الشعراء العرب القدماء تعوّدوا على الإفادة من الفلسفة (أو من الحكمة). وهو ما لا نعثر عليه بسهولة في ثقافتنا العربية الحديثة، حيث أصبح الشاعر مشدوداً أكثر إلى الابتعاد عن النظري، ومرتاباً من الفكر الفلسفي. شخصيًّا، كنت أجد نفسي أقرأ الفلسفة بمتعة كبيرة، ابتداء من الفلسفة اليونانية، التي تبهرني على الدوام. ثم ساعدتني قراءاتي الحرة على الاقتراب أكثر فأكثر من الفلسفة الحديثة. قراءاتي الحرة تعني أنني لست ملزماً بقراءة منهجية، تتبع خطوطاً أكاديمية. بهذا كنت أميل إلى الفلسفة الألمانية. ولا شك أن قراءات هيدغر للشعر كانت مقدمة لتعرفي على الفينومولوجيا، ومنها فينومولوجية هوسرل. كانت فلسفة هوسرل تفيدني في تعلم كيف أصل إلى رؤية الظاهر، التي تعتمد الحدس، وتحد من سلطة المكتوب. أي أنها كانت قوة دافعة إلى صلتي بالحواس وبالأشياء. وهو ما كان يلبي حاجتي إلى نقد المتعاليات الدينية، التي لم يكن اليسار العربي السياسي يوليها أيَّ اعتبار، عندما كان يحصر اهتمامه في تغيير الأنظمة دون أي نقد لأسسها الفكرية الأكثر فتكاً، لأنها تعيد إنتاج الأنظمة السياسية التي يكتفي بالعمل على تغيير بنياتها السطحية، دون القدرة على تغيير بنياتها العميقة. هذا من بين ما سعيت إلى توضيحه في "بيان الكتابة". ثم انتقلت، لاحقاً، إلى كتابة تأملات ودراسات عن الشعر اليوم، نشرتها في "كتابة المحو"، وبعده كتاب "الحق في الشعر". اعتمدت فيها ممارسة نقدية تجمع بين نقد متعاليات الثقافة العربية والغربية، من خلال تجديد نظرتي إلى الشعر ووظيفته في زمن العولمة.

القصيدة تنشئ فكرها الخاص بها

كيف يوفّق الحدث الإبداعي الحميم، بين بنيس المفكر وبنيس الشاعر؟
لست مفكراً ولم أدّعِ ذلك في يوم من الأيام. على أنني أكتب الشعر بما هو تجربة جسدية ـ معرفية. المعرفة التي أقصدها هي التي تنتجها الكتابة نفسها. فأنا لا أحوّل القصيدة إلى حقل من المفاهيم، ولا إلى أحكام قبلية. كان ملارمي كتب في إحدى رسائله: "إن الشاعر يجب أن يكون فقط شاعراً على هذه الأرض". هذا ما أقدمت على تعلمه عبر سنوات طويلة من قراءة الشعر، قديماً وحديثاً. وإذا كنت أنطلق في كتابة القصيدة من الحسي، الملموس، المادي، فأنا لا أضع للكلام الشعري قفصاً أسجنه فيه. قصيدتي مفتوحة في حركتها لبناء نفسها، مفتوحة على المعارف والفنون، مثلما هي مفتوحة على المختلف والمتعدّد. ولعل مفهوم البناء، بالمعنى الذي يعطيه إياه يوري تينيانوف، هو ما ينقذ القصيدة من التراكم ويهيئ لها الانسجام والتناغم. ومهما تنوعت السجلات النصية فإن المعيار (المقياس، حسب بودلير) هو الانسجام في القصيدة لما لا ينسجم خارج القصيدة. والمشوب، في هذه الحالة، هو الصفاء ذاته. أخْلُص من هنا إلى أن القصيدة تنشئ فكرها الخاص بها. فالفكر فيها ليس إضافةً، لصقاً، تطعيماً. بمثل هذه القراءة نلغي القصيدة، نسحبها من فضائها الذاتي، نحيلها على التقاعد. وهذا ما يحدث اليوم بالنسبة للشعر، عربيًّا وفي العالم. فالفكر في الشعر هو سر القصيدة، الذي هو مفتاح قراءة النشوة والدهشة.
 
سهير شعلان أبو زيد.
 
مأسوية واقعنا العربي لها جذورها في تاريخنا ومؤسّساتنا السياسية

هل بنيس الشاعر نادم على كلّ ما فجرّ من طاقات تحديث، وتجديد، ونهوض، وتنوير بعد كلّ هذه المآسي التي يعيشها العالم العربي، وعولمة لا تبالي بالإنسان؟
لا أندم على كتابتي الشعرية ولا على أعمالي أو أفعالي الثقافية. لم يكن من الممكن أن أكون ما أنا اليوم عليه لولا كتابة قصيدة لا تتنازل عن المغامرة، أي النزول إلى الغمر، ولولا السعي إلى اكتساب رؤية مفتوحة متحررة من الدوغمائيات والمتعاليات. قصيدتي كانت للتحرر وتكون. أما الأفعال الثقافية، مع الآخرين، من خلال مؤسسات ثقافية، مغربيًّا وعربيًّا، فلا أرى إلى قيامي بها أو مساهمتي فيها فقط من خلال الصدمات أو الإخفاقات والخيانات. تلك الأفعال كانت ضرورية بالنسبة لي كي أتعرف على الواقع الملموس للثقافة والمثقفين، ولمنطق المؤسسة الثقافية. ثم كان ذلك سبيلي إلى ما اجتهدت في الدعوة إليه أو العمل على تحقيقه، مما كان يبدو مستحيل التحقق.
 
نعم، أتساءل باستمرار عن جدوى ما ضيعته من أوقات كنت أظن أنها هدية للثقافة، وكان أجدى أن أكرسها لكتابتي ولا شيء غير كتابتي. أسئلتي بهذا الشأن متشعّبة. وهي تخفي حيناً وتعلن حيناً آخر عذاباتي وتمرّدي. فما قمت به كان في مجتمع كنت أعرف أنه متخلّف، لكن الواقع الذي وقفت عليه هو أن كل قهر في مجتمعنا المتخلّف يولّد مزيداً من القهر. ولنا اليوم مشهد المآسي البادية للعيان بعدما كانت البلاغة الإعلامية (الإيديولوجية) تحجب المشهد عن الأنظار. مع هذا، علينا ألا نسقط في الرؤية الأحادية إلى الواقع. فالثقافة الغربية الحديثة لم تمنع من وقوع حربين عالميتين، ولا هي مسؤولة عنهما. هذا يستدعي تجديد السؤال عن العلاقة بين الثقافة والسياسة. من هنا فإن الخراب الذي تتسع دائرته في العالم العربي هو، بمعنى ما، صدى لما يحصل في عالم اليوم، عالم العولمة، وفي أكثر من مكان، بين الغرب والشرق. طبعاً، مأساوية واقعنا العربي لها جذورها في تاريخنا ومؤسساتنا السياسية بالتكامل مع شراسة حركة الاستعمار، التي بلغت ذروتها في قيام دولة إسرائيل والتطهير العرقي لفلسطين. فداحة المأساة تعظم وتعظم. والهاوية مصيرنا، على الأقل في المنظور القريب. وهي تدفعني إلى الشعور بعبثية مصير ما حققته الثقافة العربية الحديثة من حضور في حياة شريحة من المجتمع على الأقل. عبثية تحرّض على إعادة التفكير في الأساسيات فيما هي تدفعني إلى التشبث بمكان الكتابة، الذي هو مكان المقاومة. إذا كانت الكتابة منذ البدء، بالنسبة لي، مقاومة، فإني لا أعثر على جواب أعمق وأنفع منها في تجسيد المقاومة.
 
ما يمكن الندم عليه، بالمقابل، هو ألا أحس بالهاوية، أن أتواطأ على قول الحقيقة، أن ألعن المغامرة، أن أبرّر الظلم والعدوان والقهر، أن أستسلم للإغراء أو للعبودية. نحن الآن في مرحلة الأفق المسدود، عربيًّا وعالميًّا. الثقافة، الإبداع، الشعر، التحرّر. معجم ما كنّا، هو الآن في سلّة المهملات. أنظر إليه ولا أندم. أتفحص فيه وأعاود الجلوس، يوماً بعد يوم. كتبي ودفاتر الكتابة لا أغادرها. ومن كتابتي أترك المطرقة تطرق حيث لا يكاد أحدٌ يسمع الطرقات ولا يعبأ بها. بهذا أنعزل عن مآدب الإخضاع وعن مجالس القناعة والتشريفات. ما أنا متيقّن منه هو أن فكرة المقاومة تتجسّد في القصيدة نفسها. تلك الأبواب المغلقة لا تختفي عن بصري. أشاهدها وأشهد عليها. وللقصيدة أن تدلّني على صبر المقاومة.

نفتقد مشروع بناء دولة وشعب في آن

لماذا لم تنتج الحروب العربية- منذ القديم- حداثة، كما حصل مع الغرب؟ وإلى أين وصل عطب الحداثة العربية، في عصر ما بعد الحداثة؟
يصدر هذا السؤال عن رؤية مطلقة للتاريخ العربي، تعكس انهزامات الحاضر على الماضي. لنكن حذرين من مثل هذه الرؤية في قراءتنا لتاريخ عربي كانت السيادة فيه، على طول البحر الأبيض المتوسط وجزء من آسيا، للعرب والثقافة العربية. بل إنّ هذه الثقافة، في شتى المجالات، من الأدب إلى الفلسفة والتصوّف والعلوم، كانت بانية لحداثة ترسّخت جذورها في الغرب. إذن، لم تكن حركة الفتوحات، حتى لا ننزع عنها وضعيّتها التاريخّية، حركة تدمير حضارات بقدر ما كانت حركة بناء. لا بدّ أن نتحرر من توجيه ضغط انهزامنا في الحاضر نحو إصدار أحكام سلبية، انفعالية، على تاريخ عريض، من الشرق إلى الغرب. ليس من المعقول، ولا من الواقعي، أن أتجاهل الحضارة العباسية ولا الحضارة الأندلسية. لن أقوم بذكر ما هو معروف من أسماء ووقائع ثقافية، بمعناها الواسع. أنا وريث هذه الحضارة، وأتنفّس حداثتها. هي كلمتي الأولى، مساري البدئي على طريق المقاومة. وكلما اتسعَت معارفي ولقاءاتي مع الآخر ازددت قناعة بأني سليل هذه الثقافة العربية.
 
أما حداثتنا المعطوبة، في زمننا، فهي صورة لمجمل مناحي التخلّف. عطبها يعود لزمننا، حيث أصبحت هزيمتنا في مقدّمة المشهد. عطب يصير، يوماً بعد يوم، أكثر تعقيداً مما كان عليه في مطلع ما سمّي بالنهضة العربية. نحن لم نحسم بعد، في المجال السياسي، مثلاً، في ضرورة الانتقال من الصراع الدموي على الخلافة إلى الاحتكام السلمي إلى رأي الشعب في بناء مؤسسات ديمقراطية. من هنا أرى أننا نفتقد مشروع بناء دولة وشعب في آن. هذا العطب السياسي يعضده عطب ديني. يحتكم العرب، اليوم، في جميع مناحي عيشهم، إلى المرجعية الدينية، من خلال المغلق المعمّم. لكننا، في الوقت نفسه، متصالحون مع حياة الاستهلاك، من السوق المتوحش إلى الإعلام الكاذب. على هذا النحو تكون العولمة مكمّلة لمشهد حداثتنا المعطوبة، لا تعارض ولا تناقض بينهما.
 
الشاعر.
 
هناك شجرة نسب شعرية وثقافية مقدّسة لا يمكن المساس بها

إلى أي مدى عملت "حواريّة" بنيس التّناصيّة على استدعاء المنسي والمكبوت واستنطاق المسكوت عنه؟ وهل كان تداخل نصوصه الحديثة مع نصوص التراث نسخًا للتراث أم محوًا؟ كيف؟
كل كتابة هي تداخل نصّي. لكن الذاتية هي التي تقوم بمهمة إعادة كتابة السابق، النصوص القديمة، في الكتابة الشخصية. هذه الكتابة، كتابتي، ذات إستراتيجية نقدية. نقد القيم والمتخيّل في آن. لذلك جعلت المنسي والمكبوت والمسكوت عنه، في الثقافة المغربية والأندلسية، جنباً إلى جنب، مصدراً من مصادر التداخل النصّي في كتابتي. أستعمل هنا عبارة "التداخل النصّي" بدلاً عن "التناص". هي مسألة نظرية تعود للمعرفة بالأصول (الغربية). من هنا أقول إن هناك شجرة نسب شعرية وثقافية مقدّسة (أعود هنا لتعريف المقدّس لدى جورج بطاي) لا يمكن المساس بها. وبهذا المعنى أتحفظ في استعمال مصطلح "التراث"، لأنه مشتق من فعل "ورث"، أي أخذ ما يبقى بعد الموت. إن الأعمال الكبرى ليست ما يبقى بعد موت ثقافة من الثقافات. هي لازمنية، أي أنها ليست فقط حاضرة، بل هي قادمة من المستقبل. والكتابة النقدية هي التي لها القدرة على استكشاف لا زمنية النصوص القديمة والتعامل معها باعتبارها قادمة من المستقبل لا من الماضي. وما لا يأتي منها من المستقبل هو وحده الميت، الذي لا يرثه إلا الموتى.
 
لكتابتي مع هذا النمط من النصوص القديمة علاقة حوار. كل منهما يحاور الآخر. فلا إلغاء هنا ولا تجاوز. هناك إبدال. تلك هي حكمة الكتابة.

ما الذي أضافه بنيس، في " كتاب الحبّ" على كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم؟
تمّ في العنوان الفرعي لديوان "كتاب الحب" تصريح بالتقاطع مع "طوق الحمامة" لابن حزم. "التقاطع" بحدّ ذاته يحدّد طبيعة العلاقة بين العملين. على أنني اخترت هذا الكتاب (بالاتفاق مع الفنان ضياء العزاوي)، لأنّه أندلسي وموضوع الحب يعنينا نحن معاً في زمن الحرب والكراهية. وقد تعاملت مع ابن حزم كما لو كان أخي الأكبر، صلة رحم بيننا، تقرّبه مني. كتب ابن حزم "طوق الحمامة" في زمن الحرب، تمجيداً للحب بضمير المتكلّم المفرد ولتمجيد المتعة. تلك هي خصيصة المجتمع الأندلسي. إلا أن ابن حزم فقيه ظاهريّ. يمنع ما يحرمه الإسلام في الحب عندما يتعرّض صاحبه إلى الجنون أو عندما يقدم على قتل النفس. أما "كتاب الحب" فقد كتبته على إثر الحرب الأمريكية على العراق، وتقاطعه مع كتاب ابن حزم يشدد على علاقة الحوار. أنا فلست ظاهريًّا، ورؤيتي النقدية هي التي أعطت كتابتي الحجّة في خرق المحرّم الديني، من خلال إزالة اللعنة والغضب (والتكفير) في "كتاب الحب" عن كلٍّ من الجنون وقتل النفس، وعدم النظر إلى المحب المجنون أو قاتل النفس من خلال التحريم الديني، بل من خلال الحب بما هو تجربة جسدية وثقافية في آن، قوّتها في لانهائيتها، لا محدوديّتها، خرقها للحدود الدينية والأخلاقية. فالحب مضاد لمعيار الحلال والحرام، بمعناهما الديني، لأنه "لا تحالف في الحب ولا اختيار" كما جاء في "كتاب الحب".
 
الباحثة.
 
أدونيس شاعر كبير، تعلمت منه وأنا شاب

جسد أدونيس المشرقي، وجسد بنيس المغربي، الممتلئ بالغرب، هل من جسر حقيقي أو مَجازي يجمعكما؟ أو أن التناقض يباعد بين الجسدين، المشرقي والمغربي؟
الجسد فردي وثقافي. وما نقصده معاً هو الجسد في الكتابة، أي كيف تكتب الكتابة الجسد. أدونيس شاعر كبير، تعلّمت منه وأنا شاب، مثلما تعلّم هو الآخر من الشعراء الذين كان يرى فيهم نموذجه الأعلى ومثاله، ومثلما تعلّم جميع الشعراء في بداياتهم من الشعراء الكبار. قراءتي لأدونيس في البداية (1966، أول مرة) جدّدت لدي الدهشة والصدمة. تاريخ مركّب يجمع بيننا، هذا موضوع خاص. ولكن الكتابة والمعرفة بالكتابة (عربيًّا وغربيًّا) قرّبت بيننا. ورغم هذا القرب فإن اشتغالي على جسدي المغربي، اتّبع مساراً له اختلافه. وأرى أن كل علاقة قوية بين شاعرين، مبدعين، هي بالأساس علاقة اختلاف. فلا تطابق ولا تشبّه. إذا كنت أبحث عن جسدي الشخصي، والمغربي، في الكتابة فذلك لأن الكتابة هي نفسها التي دلتني على المختلف. بهذا المختلف لا تزال كتابتي حتى الآن على حدود المشرق، داخله وخارجه. وهذا المختلف مظهر من مظاهر المنسي والمكبوت في الثقافة العربية، مشرقاً ومغرباً، على السواء.
 
عندما يؤسّس النص اختلافه يصبح متكلماً باسم المشترك. فالاختلاف هنا سعيد وليس شقيًّا. وهو وحده ما يسمح لي أن أكون المتّصل ـ المنفصل، ويمنح الكتابة متانة الجسر ومتاهة الصحراء. إنّه الاختلاف الذي يشعُّ أكثر كلّما كانت أضلاعه صقيلة أكثر. بهذا يكون الاختلاف بين أدونيس وبيني اسماً للحوار والصداقة.
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم