من تحسين الأداء إلى تشكيل القرار: ماذا يعني صعود Copilot للمستخدمين؟
*جاك جندو
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد إضافة تقنية إلى أدوات العمل اليومية، ولا مجرد وسيلة لتسريع الكتابة أو تنظيم الاجتماعات. ما تكشفه التقارير الحديثة حول الاستخدام المتقدم لـ Microsoft Copilot يشير بوضوح إلى تحوّل أعمق يمس جوهر العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، تحوّل يضع الذكاء الاصطناعي في موقع أقرب إلى المستشار الشخصي منه إلى الأداة المحايدة.
هذا التحول لا يحدث دفعة واحدة، ولا يُقدَّم بوصفه ثورة صاخبة. بل يتسلل بهدوء إلى سلوك المستخدمين، عبر الاعتياد اليومي، والاعتماد المتزايد على الاقتراحات الذكية، إلى أن يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من عملية التفكير نفسها.
ما الذي تقوله الأرقام؟
بحسب بيانات تحليلية نشرتها "مايكروسوفت" عام 2025، واستندت إلى أكثر من 37.5 مليون تفاعل مجهول الهوية، تبيّن أن استخدام Copilot تجاوز الإطار التقليدي للعمل المكتبي. المستخدمون لم يعودوا يعتمدون عليه فقط في كتابة النصوص أو تحليل البيانات، بل في اتخاذ قرارات مهنية حساسة، وطرح أسئلة تتعلق بالصحة والضغط النفسي، والحصول على إرشاد شخصي في قضايا الحياة اليومية.
هذه الأرقام مهمة ليس بسبب حجمها فقط، بل بسبب دلالتها. فهي تعكس انتقال الذكاء الاصطناعي من أداة إنتاجية إلى عنصر حاضر في المساحة الذهنية للمستخدم، حيث يُستشار في لحظات التردد، لا فقط في لحظات التنفيذ.
من الاستخدام إلى الاعتماد
ما يميّز Copilot عن الأجيال السابقة من أدوات الذكاء الاصطناعي ليس دقة الإجابة وحدها، بل فهم السياق وتوقيت الاقتراح. النظام لا ينتظر دائماً سؤالاً مباشراً، بل يتعلّم من سلوك المستخدم، من نمط عمله، ومن تكرار قراراته، ليقدّم توصيات تبدو منطقية وأقل مخاطرة.

مع الوقت، يتحول هذا النمط إلى اعتماد. القرار لا يُلغى، لكنه يُعاد تشكيله ضمن مجموعة خيارات يُقترح أنها الأفضل. وهنا يبدأ التحول الحقيقي، حيث ينتقل المستخدم تدريجياً من التفكير المستقل إلى التفكير المُرشَّد خوارزميًا.
اختلاف السياق يغيّر الدور
تكشف بيانات الاستخدام فروقاً واضحة بين السياقات المختلفة. على أجهزة الكمبيوتر، يبرز Copilot كأداة تحليل وتخطيط واتخاذ قرارات مهنية، حيث تسود معايير السرعة والكفاءة. أما على الهواتف الذكية، فيظهر نمط مختلف، إذ يميل المستخدمون إلى طرح أسئلة أكثر شخصية وفي أوقات غير رسمية، ما يعكس انتقال الذكاء الاصطناعي إلى مساحة أقرب للوعي الفردي لا لمجرد بيئة العمل.
هذا التباين مهم، لأنه يوضح أن الذكاء الاصطناعي لا يتكيّف فقط مع نوع الجهاز، بل مع الحالة النفسية والزمنية للمستخدم.
أين تكمن الإشكالية؟
الإشكالية الأساسية في هذا التحول لا تكمن في التكنولوجيا نفسها، بل في الراحة الذهنية التي توفرها. كلما خفّ العبء عن المستخدم، زاد الاعتماد، ومع الاعتماد يتقلّص هامش الشك والتجربة وحتى الخطأ. السؤال يتحول تدريجياً من:
• ماذا أريد أن أقرر؟
• إلى: ما الذي يبدو الخيار الأفضل وفق البيانات؟
هذا التحول صامت، لكنه عميق، لأنه يعيد تعريف آلية اتخاذ القرار دون أن يشعر المستخدم بذلك.
الخصوصية والسيادة الذهنية
لكي يؤدي Copilot هذا الدور المتقدم، يحتاج إلى بيانات عميقة وسياق طويل الأمد. ورغم التأكيدات المتكررة حول حماية الخصوصية والتشفير، تبقى المسألة أوسع من الأمن السيبراني. عندما تُبنى قرارات الأفراد والمؤسسات على أنظمة لا نرى منطقها الداخلي، تتحول الخصوصية من مسألة تقنية إلى قضية تتعلق بالاستقلالية والسيادة الذهنية.
بين التمكين والاستبدال
لا يمكن تجاهل الفرص الكبيرة التي يوفّرها الذكاء الاصطناعي الشخصي. في التعليم، الإدارة، وريادة الأعمال، تتيح هذه الأدوات الوصول إلى تحليل أسرع وقرارات أكثر استناداً إلى البيانات، خصوصاً في البيئات التي تعاني من نقص في الخبرة أو الموارد.
لكن الخط الفاصل بين التمكين والاستبدال يظل دقيقاً. الذكاء الاصطناعي يجب أن يبقى أداة توسّع قدرات الإنسان، لا مرجعاً يحلّ مكانه.
مرحلة تاريخية يُعاد فيها تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة
Microsoft Copilot ليس مجرد منتج جديد ضمن سباق الذكاء الاصطناعي، بل مؤشر على مرحلة تاريخية يُعاد فيها تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة. مستقبل الذكاء الاصطناعي لن يُحسم بقدراته التقنية وحدها، بل بقدرة المجتمعات والمؤسسات على وضع أطر أخلاقية وتنظيمية تضمن بقاء الإنسان في موقع القيادة.
في عالم تقوده الاقتراحات الذكية، التحدي الحقيقي ليس فقدان الوظائف، بل الحفاظ على قدرة التفكير المستقل، خارج ما تقترحه الخوارزميات.
* خبير في التحوّل الرقمي
نبض