من واقعة قانونية في قطر إلى معايير أوسع لضبط الذكاء الاصطناعي
*عيسى المعاني
مع تزايد حضور الذكاء الاصطناعي في تفاصيل العمل القانوني، بدأت المحاكم حول العالم تلامس آثار استخدامه من دون ضوابط واضحة. لم يعد الأمر مقتصراً على أداة تقنية تساعد في البحث، بل تحوّل في بعض الحالات إلى مصدر معلومات قد تكون مضلِّلة إذا غاب التحقق المهني. ومع اتساع هذا الجدل، برزت أحكام قضائية جديدة تعيد رسم الحدود بين ما يمكن الاعتماد عليه رقمياً وما يظل من صميم مسؤولية المحامي.
في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 أصدرت محكمة مركز قطر المالي حكماً لافتاً في قضية Jonathan David Sheppard v Jillion LLC، محامٍ قدّم سوابق قضائية غير موجودة اعتماداً على أداة ذكاء اصطناعي، ثم استمر في التبرير قبل أن يعترف بالحقيقة. القضية تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها في الجوهر رسالة مهنية وقضائية تتجاوز حدود قطر إلى المنطقة والعالم.
الدرس القانوني وخطورة "الاعتماد الأعمى"
الرسالة الأولى أن الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة وليس بديلًا من ضمير المحامي وعقله، قواعد محكمة مركز قطر المالي، ولا سيما منها المبدأ الذي يحظر تقديم معلومات كاذبة أو مضلِّلة للمحكمة، تُسند المسؤولية إلى الشخص الذي يوقّع المذكرة، لا إلى الخوارزمية، اعتبار السلوك "ازدراءً للمحكمة" يعني أن الاستمرار في التمسك بقضايا وهمية بعد انكشافها يُفهم نية لعرقلة العدالة، لا خطأ عفوياً وبالتأكيد ليس خطأ مادياً.

انتشار عالمي وفجوة مهنية في تنظيم
الـAI
الحكم أشار صراحة إلى حالات مشابهة في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا، ومنها قضية Mata v Avianca Inc أمام محكمة فيدرالية في نيويورك عام 2023، إذ عوقب محامون لاعتمادهم على قضايا مختلقة ولّدها "شات جي بي تي"، وكذلك قضية Ayinde v London Borough of Haringey في إنكلترا عام 2025. فوفقاً لأخر الاحصائيات بلغت الدعاوى التي تم الاسترشاد بقضايا وهمية فيها 597 قضية حول العالم، هذا الانتشار يُظهر فجوة مهنية: أدوات الذكاء الاصطناعي تدخل مكاتب المحامين بسرعة، بينما العديد من نقابات المهنة، من بيروت إلى دبي، لم تُدرج بعد ضوابط واضحة لاستخدامها في مدوّنات السلوك.
مكانة قطر والمعايير المنتظرة
إعلان المحكمة القطرية إعداد "توجيهات للممارسة" يضعها في موقع الريادة الإقليمية، اشتراط التحقّق من كل سابقة عبر قواعد بيانات رسمية، توثيق خطوات البحث، والتصريح عند استخدام أدوات ذكاء اصطناعي، مع مبدأ التصعيد في العقوبة عند التكرار، كما أن قرار عدم كشف اسم المحامي في المخالفة الأولى، في مقابل التلويح العلني مستقبلًا، يجسّد توازناً بين الردع والإنصاف في زمن التحوّل الرقمي.
بهذا الحكم، قدّمت هيئة محكمة مركز قطر المالي نموذجاً عربياً محسوباً ومتقدماً كما عهدناه، قضاءٌ يرحّب بالتكنولوجيا، لكنه يذكّر الجميع بأن الكرامة القضائية والحقيقة ليستا مجالًا للتجربة على منصّات الذكاء الاصطناعي.
*محامي ومستشار قانوني متخصص في القانون التجاري وتنظيم البيانات والذكاء الاصطناعي
نبض